يبدو مثيرا للاستغراب والدهشة موقف السوريين في مناطق النظـام من حراك مدينة السويداء الذي تجاوز شهره الثاني هذه الأيام، ذلك أن حياتهم مستمرة كما كانت قبل بدء الحراك، وكأن لا شيء يحدث في محافظة كاملة كانت تشكل جزءا أساسيا من سوريا (المفيدة) كما اقترحها ذات يوم رئيس النظام السوري. وحين نقول مثيرا للاستغراب فذلك لأن حراك السويداء، وإن بدا كما لو أنه إكمال للحدث الأكبر في التاريخ السوري الحديث، أقصد ثورة الربيع العربي التي انطلقت عام 2011، فإنه من ناحية أخرى يختلف عنها في تفاصيل كثيرة كان يمكن أن تشكل نقطة مهمة لعودة موجة جديدة من الربيع السوري (لنسمه ذلك افتراضا)، موجة شعبية وطنية عامة يتحرك فيها كل السوريين مدفوعين بهويتهم الوطنية السورية لا هوياتهم الدينية ولا الطائفية ولا الحزبية ولا العقائدية الإيديولوجية؛ فحراك السويداء حتى اللحظة هو حراك مدني شعبي وطني بالكامل، لا شبهة فيه لا (للإرهاب) ولا للعسكرة ولا للعنف ولا للانتقام ولا للطائفية، رغم اعتراض الكثيرين على علم الخمس حدود الخاص بالطائفة الدرزية، لكنه، من وجهة نظر شخصية، مع الخطاب الوطني الذي يعلنه الحراك، بما فيه خطاب مشايخ العقل، والبعيد تماما عن ذكر أي مفردة دينية أو طائفية أو تصنيف للحراك بوصفه حراكا درزيا، فإن علم الخمس حدود يشكل تأكيدا على الاختلاف الثقافي بين المواطنين؛ رغم الالتزام بهوية المواطنة السورية. خصوصا في غياب علم موحد يجمع جميع السوريين دون استثناء ويشكل لهم مظلة يلجؤون إليها حينما يمارس عليهم عنفا ما، وهي الخاصية التي فقدها العلم الرسمي للنظام مثلما فقدها العلم الذي اعتمدته الثورة لاحقا. إذ مورس تحت العلمين الكثير من العنف من سوريين بحق سوريين آخرين، وأدرجا تحت قائمة المقدسات والتابوهات السورية التي يجرم أو يخون كل من يعترض أو يناقش أمر وجود أحدهما، وهذا بحد ذاته ينسف فكرة الحماية والملجأ التي يمكن لعلم ما أن يشكلها. فالتقديس سلطة وفي السلطة، أية سلطة، ثمة عنف ما سوف يظهر في وقت ما.
كل ما يحدث في ساحة الكرامة وفي حراك السويداء عموما، كان يمكنه أن يكون نقطة جذب وانطلاقة لموجة شعبية شاملة، كما أسلفنا، فالحراك لم يخرج من الجوامع (كما اتهمت ثورة 2011) ولا من المواقف الدينية الخاصة بالطائفة الدرزية، وتشكل النساء نسبة عالية جدا فيه، وهن نساء غير محجبات ولا منقبات (كما تم اتهام النساء في ثورة 2011)، كما أن مجريات الحراك مدنية حضارية وحضرية، حيث تحولت ساحة الكرامة إلى ما يشبه مركزا ثقافيا ومعرضا لكل أنواع الفنون من الغناء إلى الموسيقا إلى الرسم والنحت والرقص والشعر والأدب والطبخ، حتى العصيانات التي دعا إليها الحراك هي عصيانات مدنية تستهدف الضغط على النظام لتحقيق بعض المكاسب لصالح الحراك، ولا وجود فيها لأية شبهة تدميرية أو تخريبية، ولم يحصل خلال الشهرين الماضيين أي حدث يمكنه أن يعطي انطباعا مغايرا عن مسار الحراك الشعبي.
ما الذي يجعل شبيحة النظام والساحل السوري يستنفرون يوميا لتشويه الحراك وتشويه الداعين له ووصفهم بأوصاف مسيئة وتوجيه أقذع الشتائم لهم؟
الموقف الأمني الوحيد الذي حصل هو حين تم إطلاق النار من جهة فرع حزب البعث نحو المتظاهرين وتم احتواؤه بسرعة لمنع حصول ما لا يحمد عقباه. ما الذي يمنع باقي السوريين من الانضمام للحراك ورفده بدعم شعبي كبير، على الأقل احتجاجا على التردي المهول في المعيشة والوضع الاقتصادي والغلاء والفساد والإتاوات والعصابات والقمع دون الدخول حاليا في شعار إسقاط النظام (رغم أنه ما من سوري لا يعرف أن كل ما يحدث في سوريا حاليا إنما هو بعلم وموافقة من النظام من أسفله حتى رأسه). ما الذي أيضا يخيف باقي السوريين في حراك السويداء حتى يصمتون تماما عنه ويتركونه وحيدا (حتى الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام تراجع عن الدعم)؟ وأيضا ما الذي يجعل شبيحة النظام والساحل السوري يستنفرون يوميا لتشويه الحراك وتشويه الداعين له ووصفهم بأوصاف مسيئة وتوجيه أقذع الشتائم لهم؟
في اعتقادي أن ما حصل خلال العقد الماضي أعاد سردية الخوف مضاعفة إلى وعي السوريين، فالعنف والإجرام الذي قوبلت به ثورة 2011 سوف يبقى طويلا في اللاوعي الجمعي السوري، مثلما استقر الخوف نفسه بعد مجزرة حماة وحلب في ثمانينيات القرن الماضي. مع ذكر أن زمن العنف في القرن الحالي طال كثيرا وامتد ليعمم على كل سوريا، حتى على المناطق والمحافظات المؤيدة للنظام أو تلك التي تشكل حاضنة له، كما يحلو للكثيرين القول، فحتى هذه الحاضنة تعرضت للعنف الشديد حين استخدمت كدرع بشري لحماية النظام ووضع أبناؤها في موجهة باقي إخوتهم السوريين وتحولوا إلى قتلة ومقتولين حتى إن جيلين كاملين منهم (الذكور على وجه الخصوص) قد أمسيا ترابا عدا المعطوبين والمصابين والمنكوبين والأيتام والأرامل والثكالى، هذا كله أفقد تلك الحاضنة سندا اقتصاديا رئيسا، ما جعلها تعاني من الفقر والفاقة والحاجة أضعاف ما يعانيه باقي السوريين، ذلك أن للسوريين الآخرين أهلا وأبناء تمكنوا من الخروج من سوريا واستقروا في مجتمعات جديدة أتاحت لهم ميزة إرسال مساعدات لمن تبقى من عوائلهم في الداخل السوري، وهو ما لم يتح إلا لقلة قليلة جدا من بيئات النظام التي يعيش غالبية سكانها في أوضاع معيشيه شديدة البؤس والانحدار؛ أليس هذا في حد ذاته عنفا مركزا وممنهجا لا يقل عن عنف القصف والتدمير والحصار وغيره من أنواع الإجرام التي تفنن النظام وحلفاؤه بها ضد السوريين طيلة العقد الماضي؟
على أن الخوف ليس وحده السبب في هذا الانكفاء عن مساندة السويداء وحراكها العظيم، ثمة أسباب أكثر تعقيدا وتركيبا من الخوف، رغم ما به من تعقيد، ولنتحدث أولا عن السوريين داخل مناطق سيطرة النظام، (دمشق والساحل السوري والوسط وحلب)، هذه المحافظات التي عاشت الحرب وآثارها المدمرة على كل الأصعدة كانت ومازالت منقسمة في العلاقة مع النظام والثورة؛ وللأمانة التاريخية فإنه ينبغي القول إن سكان المدن السورية الكبرى لم يستطيعوا أن يشكلوا حواضن للثورة يعول عليها، وذلك لتشابك الاقتصادي مع الاجتماعي والسياسي في البنية المعيشية لهؤلاء، ومع ما شهدوه وعايشوه من دمار وحرب وخراب فإن تفاعلهم مع حراك جديد كحراك السويداء سوف يحتاج وقتا طويلا لينجز أو ليتم، وسوف يحتاج إلى إيمان مطلق بأن الخراب السوري اليومي يتحمل مسؤوليته أولا النظام وسياساته، خصوصا وأن (الانتصار) على الإرهاب قد أنجز منذ مدة وعقدت الاحتفالات الشعبية في المدن الكبرى فرحا بالانتصارات، وأعلن المجتمع الدولي والعربي عن عزمه تطبيع العلاقات مع النظام، إذن لماذا يزداد الوضع المعيشي والاجتماعي والاقتصادي سوءا وترديا؟ هذا الإيمان ينبغي له ليحدث أن يقدم سكان هذه المدن مواطنيتهم على مصالحهم الاقتصادية، ينبغي لهم إعلاء شأن انتمائهم السوري وفك ارتباط سوريا بالنظام في أذهانهم، ومحاولة رؤية مستقبل سوريا بدون النظام والمقارنة بين مستقبل كهذا وبين الحاضر والماضي.
أما ما يخص الساحل السوري فالوضع أكثر تركيبا بكثير فبالإضافة إلى كل ما سبق، فأهل الساحل يدركون في قرارة أنفسهم أنهم متورطون بالدم وبالخراب السوري مهما ادعوا أنهم كانوا يدافعون عن الوطن لا عن النظام ولا عن امتيازات واهية يعتقدون أنهم يتمتعون بها. هذا التورط يجعلهم أكثر التصاقا بالنظام، ذلك أن رحيله قد يعني لهم أن سلسة من الانتقامات قد تكون قادمة ما يجعل كل الهواجس والمخاوف، قديمها وحديثها، تتجلى وتظهر وتتضخم ما يزيد من ارتباطهم بالنظام (الحامي)، ويبعدهم عن المواطنة وعن الهوية الوطنية لصالح أكثر الهويات ضيقا وتقوقعا.
هذه القوات والكتائب سوف ترى في مدنية حراك السويداء ومطالبه بفصل الدين عن الدولة تهديدا مباشرا لها ولوجودها فيما لو انتقلت هذه المطالب إلى مناطقها
في المقابل لا تختلف حالة سكان المناطق الخارجة عن سيطرة النظام عن حالة سكان الساحل إلا من حيث التفاصيل، إذ فجأة توقفت مظاهرات التأييد التي ظهرت في بدايات حراك السويداء في إدلب وريفها الخارج عن سيطرة النظام، أما توقفها فيرجع، غالبا، إلي رغبة قوات الأمر الواقع المسيطرة على تلك المناطق، والتي كانت السبب في أسلمة الثورة وإلباسها لبوسا دينيا ومذهبيا، هذه القوات والكتائب سوف ترى في مدنية حراك السويداء ومطالبه بفصل الدين عن الدولة تهديدا مباشرا لها ولوجودها فيما لو انتقلت هذه المطالب إلى مناطقها، عليها إذاً أن تعلن رفضها للحراك تحت مسميات عديدة منها مثلا أنها ثورة جياع بينما الثورة السورية للحرية والكرامة (أين الحرية والكرامة في الشمال السوري حاليا؟) أو أنه بأمر من النظام باعتبار النظام لم يقم بقصفها وقمعها (يعرف الجميع حساسية السويداء وجبل العرب للمنطقة عموما)، أو أن هدف الحراك هو الانفصال وإقامة دويلة درزية إلى آخر هذه الذرائع التي يضعها المرعبون من عودة سوريا إلى مدنيتها وطبيعة شعبها المتسامح والوسطي.