لماذا تركيا حريصة على علاقاتها بروسيا؟

2023.07.16 | 05:58 دمشق

لماذا تركيا حريصة على علاقاتها بروسيا؟
+A
حجم الخط
-A

خلقت الصفقة التي أبرمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء السويدي بخصوص ملف عضوية السويد في الناتو انطباعاً بدخول العلاقات التركية الغربية حقبة جديدة. وما عزّز هذا الانطباع أن مضمون الصفقة لم يقتصر فحسب على مسألة مكافحة الإرهاب، بل تضمنت أيضاً خريطة طريق لإصلاح العلاقات التركية الغربية. مقابل وعد من أردوغان بعرض بروتوكول عضوية السويد في الناتو على البرلمان التركي من أجل التصديق عليه، تعهد الاتحاد الأوروبي بتحريك الجمود في مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد والعمل على تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي وتحرير التأشيرة. كما تعهّدت واشنطن من بين أمور أخرى، بالعمل على إتمام بيع مقاتلات إف ستة عشر إلى تركيا. مع أنه من السابق لأوانه الجزم بإمكانية نجاح هذه الصفقة وحدوث تحول حقيقي في مسار العلاقات بين أنقرة والغرب، إلآّ أنّها كشفت عموماً أن الطرفين لديهما رغبة جدية في إعادة تشكيل العلاقات.

هناك قاعدة عامة تتحكم في مسار علاقات تركيا مع كل من روسيا والغرب. عندما تكون العلاقات التركية الروسية جيدة فإن العلاقات التركية الغربية تتوتر والعكس صحيح

أحد الأسئلة الكبيرة التي تُصاحب بوادر الانفراجة في العلاقات بين أنقرة والغرب يتمحور حول تأثيرها المحتمل على العلاقات التركية الروسية. على الرغم من أن جانباً أساسياً من هذه العلاقات يقوم على مصالح أنقرة وموسكو المتداخلة في كثير من القضايا المحيطة بهما، من آسيا الوسطى إلى جنوب القوقاز مروراً بالبحر الأسود وسوريا، فضلاً عن تجارة الطاقة التي تبدو محورية في هذه الشراكة، إلآّ أن هناك قاعدة عامة تتحكم في مسار علاقات تركيا مع كل من روسيا والغرب. عندما تكون العلاقات التركية الروسية جيدة فإن العلاقات التركية الغربية تتوتر والعكس صحيح. للحد من تأثير هذه القاعدة على صياغة سياستها الخارجية، لجأت أنقرة إلى مفهوم التوازن الذي برز بشكل أوضح بعد الحرب الروسية الأوكرانية من أجل الموازنة بين هويتها الجيوسياسية كجزء من حلف الناتو وبين مصالحها الحيوية مع روسيا. يُمكن القول إن هذه الاستراتيجية نجحت في إثبات فوائدها على تركيا وساعدتها بشكل مقبول في الحد من تداعيات الحرب على علاقاتها مع روسيا والغرب.

مع ذلك، فإن عملية التوازن التي تقع في صلب عقيدة السياسة الخارجية لأردوغان، تواجه الكثير من التحديات. هناك عاملان أساسيان ينبغي توفّرهما لإحداث توازن حقيقي في السياسة الخارجية التركية بين روسيا والغرب. الأول إقامة علاقات مستقرة مع الطرفين، والثاني توظيف هذه العلاقات لتقوية موقف أنقرة مع الطرفين. بدا أن هذين العاملين لم يتحققا بشكل واضح. في وقت تبدو فيه العلاقات التركية الروسية مستقرة وقوية بالفعل، فإن العلاقة مع الغرب ليست كذلك. كما أن سوء العلاقة مع الغرب دفع تركيا إلى زيادة اعتمادها على روسيا في الكثير من المجالات الحيوية وهو ما جعلها أكثر عُرضة للضغط الروسي. يُمكن ملاحظة ذلك بوضوح في سوريا حيث إن توتر العلاقات بين أنقرة وواشنطن بسبب علاقة الأخيرة بوحدات حماية الشعب الكردية دفع تركيا منذ منتصف العقد الماضي إلى رفع رهاناتها على الشراكة مع روسيا لتعزيز مصالحها في سوريا، لكنّه فرض عليها في المقابل تبني سياسات لم تكن تُحبّذها مثل الانفتاح على الحوار مع النظام السوري.

علاوة على ذلك، عمقت الشراكة التركية الروسية المتزايدة من مأزق علاقات تركيا مع الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة. كانت واشنطن ستبقى متسامحة مع هذه الشراكة لولا أنها لم تصل إلى مجالات حساسة مثل التعاون العسكري وشراء تركيا منظومة إس أربعمئة الروسية. في الواقع، وجدت أنقرة نفسها مُجبرة على تطوير الشراكة مع موسكو إلى مجالات دفاعية، لأن واشنطن رفضت مشاركتها تكنولوجيا منظومة باتريوت الصاروخية. مع ذلك كان ثمن شراء منظومة إس أربعمئة على تركيا كبيراً من حيث إخراجها من مشروع إنتاج مقاتلات إف خمسة وثلاثين مع الولايات المتحدة وفرض عقوبات على صناعاتها الدفاعية. لعل ذلك ما يُفسر كيف أن تركيا تسعى الآن لشراء مقاتلات إف ستة عشر من واشنطن وتحديث أسطولها الجوي. مع ذلك، فإنه حتى لو قررت الولايات المتحدة منح تركيا ما تُريده وحتى لو وافق الأوروبيون على تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي وتحرير التأشيرة للمواطنين الأتراك، فإن الشراكة مع روسيا ستبقى حيوية لأنقرة ومن غير المرجح أن تتخلى عنها.

في تجارة الطاقة على سبيل المثال، فإنها ستبقى حيوية لتركيا وطموحاتها لتعزيز أمن الطاقة لديها والتحول إلى مركز عالمي لعبور الطاقة. مع إتمام مشاريع ضخمة في هذا المجال مثل إنشاء محطة أقويو النووية لتوليد الطاقة الكهربائية في تركيا، والدور الكبير الذي حظيت به تركيا في تجارة الطاقة العالمية خصوصاً بين روسيا والاتحاد الأوروبي. يعمل البلدان أيضاً على مشروع ضخم آخر في مجال الطاقة وهو إنشاء مركز لبيع الغاز في تركيا. علاوة على ذلك، فإنه بالنظر إلى أن تركيا لا تزال تعتمد بشكل أساسي على استيراد الغاز من روسيا، فضلاً عن الخدمات التي تُقدمها موسكو لأنقرة مثل تأجيل مدفوعات الغاز لتخفيف الأعباء المالية على الخزانة التركية، فإن أردوغان حريص بشكل أساسي على عدم تضرر علاقات الطاقة مع روسيا.

تسعى تركيا بشكل أساسي من وراء تحسين علاقاتها بالغرب إلى جني المنافع الاقتصادية أولاً وإلى إحداث توازن في علاقاتها بين موسكو والغرب بما يُساعد من تقليل اعتمادها بشكل جزئي على روسيا في تأمين بعض مصالحها الحيوية

في غضون ذلك، ستبقى تركيا تنظر إلى شراكتها مع روسيا في جنوب القوقاز وسوريا  لتحقيق مصالحها الجيوسياسية. بالنظر إلى أن دور الغرب في هذه المناطق محدود للغاية، فإن تحسينا محتملاً للعلاقات بين تركيا والغرب لن يعود بالفوائد الكبيرة على مصالح تركيا في هذه المناطق في حال أضرت بشراكتها مع موسكو. كما أن الثقة في الشراكة التركية الروسية تبدو أكثر متانة مقارنة بما هو الحال عليه في العلاقات بين تركيا والغرب. وحتى لو افترضنا أن مرحلة جديدة في العلاقات بين تركيا والغرب ستحصل، فإنها لن تؤدي بطبيعة الحال إلى ترميم عامل الثقة بين أنقرة والغرب بشكل كامل. ستبقى القضايا الخلافية الرئيسية بين الطرفين قائمة مثل العلاقات الأميركية بوحدات حماية الشعب الكردية والتوترات التركية اليونانية والقضية القبرصية المزمنة. وفق هذا المنظور، فإن الفوائد المحتملة التي يُمكن أن تجنيها تركيا من وراء تحسين علاقاتها مع الغرب ستبقى محدودة في أطر ضيقة مثل الاقتصاد والتجارة وجزئياً التعاون الدفاعي، لكنها لن تؤدي إلى إعادة تشكيل العلاقات من منظور جيوسياسي أوسع.

تسعى تركيا بشكل أساسي من وراء تحسين علاقاتها بالغرب إلى جني المنافع الاقتصادية أولاً وإلى إحداث توازن في علاقاتها بين موسكو والغرب بما يُساعد من تقليل اعتمادها بشكل جزئي على روسيا في تأمين بعض مصالحها الحيوية. لهذا السبب، من غير الواقعي الافتراض بأن مساعي تركيا لتحسين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تعكس رغبة لديها بإنهاء شراكتها مع روسيا. على وجه الخصوص لا تزال هذه الشراكة مُهمة لتعزيز نهج تركيا المحايد في الحرب الروسية الأوكرانية ولعب دور الوسيط بين الطرفين وتعزيز مكانتها الجيوسياسية لكل من روسيا والغرب. وفي سوريا أيضاً، أضحت هذه الشراكة  إحدى الوسائل التركية للتقليل من تأثير العلاقات بين واشنطن ووحدات حماية الشعب الكردية على مصالح تركيا الأمنية.