قبل سوتشي طرح الأمريكيون مع فرنسا وبريطانيا والأردن والسعودية ما عُرف بـ"لاورقة تيلرسون" في باريس (23-1-2018) التي تتضمن خارطة طريق للحل السياسي في مواجهة الانفراد الروسي، واللاورقة هذه صارت تعرف لاحقاً بـ"خطة الدول الخمس"، وهي خطة تحاول أن تستوعب الخطة الروسية وتفرغها من مضمونها، وتقوم على فكرتين رئيستين: تفريغ منصب الرئاسة في سوريا من الصلاحيات إلى أقصى حد ممكن وتوزيع تلك الصلاحيات على باقي المناصب الحكومية، والانتقال السياسي عبر انتخابات تشرف عليها الأمم المتحدة في "بيئة آمنة ومحايدة" وتجري وفقاً لدستور جديد حدد قرار مجلس الأمن2254/2015 طريق الوصول إليه. أعاق هذا التحرك للدول الخمس فرض نتائج سوتشي على الأمم المتحدة كما أرادها الروس، وما يزال موضوع لجنة سوتشي الدستورية حتى اللحظة مجهول المآل، خصوصاً مع صعوبة انعقاد جولة مفاوضات جديدة.
التقطت بعض قيادات المعارضة خارطة الدول الخمس، وبنصائح من "الأصدقاء" صار هؤلاء مقتنعون أن الاندراج في الخطة يسمح بتحولهم إلى موقع أقوى في مواجهة الروس، وصارت قضية الانتخابات كأساس للانتقال السياسي مطروحة في نقاش المعارضة وإن كانت لا تحظى بأي دعم حتى الآن، بل أكثر من ذلك هي مرفوضة ومستهجنة على العموم.
الروس وبالتعاون مع رجلهم ديمستورا أوصلوا المفاوضات في تطبيق الانتقال السياسي وفقا للقرار 2254 إلى ملفين وحيدين: انتخابات،
هيئة مفاوضات جزء منها من مخابرات النظام والجزء الآخر يتبع دولاً تعادي الثورة بل وتدعم النظام بالسلاح والمقاتلين والاستشارات العسكرية والطيارين الحربيين
وعملية دستورية (ليس بالضرورة أن تولد دستوراً جديداً)، ويعمل الروس على أن تكون هذه الانتخابات وفقاً لدستور 2012 يجري تعديله بلجنة دستورية (كانوا يأملون أن تكون لجنة سوتشي) ويصدر قرار تشكيل اللجنة من رأس النظام، والغرض واضح من المساعي الروسية وهو رفع يد الأمم المتحدة وإضفاء الشرعية الكاملة على النظام دولياً وبقبول وتسليم تام من المعارضة.
مسائل عديدة تفرض نفسها عند أي حديث عن الانتخابات، ولكن وقبل الحديث عن ذلك لا بد من القول: إنه بمجرد القبول بمبدأ الانتخابات فإن جميع الشروط الأخرى ستكون موضع تفاوض، وعندما نقول تفاوض فإن كل شيء ممكن، بما في ذلك القبول بصيغة النظام، وبالتالي القبول بالانتخابات رسيما من قبل المعارضة سيكون نقلة خطيرة جداً وكبيرة. وباعتبار أننا أمام هيئة مفاوضات جزء منها من مخابرات النظام والجزء الآخر يتبع دولاً تعادي الثورة بل وتدعم النظام بالسلاح والمقاتلين والاستشارات العسكرية والطيارين الحربيين، وخبرتنا معها أنها مطواعة كلما كان هنالك استعصاء وتصلُّب من النظام تُقدم التنازل تلو الآخر، فإنها ستفعل ذلك لا محالة عند الدخول في مفاوضات الانتخابات.
ما الذي أعده الأسد للانتخابات؟
من يحق له التصويت في أية انتخابات هم المسجلون في "السجل الانتخابي"، الذي يُشترط فيه – وفقاً للتعليمات التنفيذية لرئاسة حكومة النظام - أن لا يكون ثمة "مانع قانوني" يحول دون ممارسة حقه في الانتخاب (هنالك مليون ونصف مطلوب لقوى الأمن وهؤلاء محرمون بالضرورة من هذا الحق)، وأن يتم في السفارة التابعة للدولة السورية في البلد المعين (اللاجئون على الحدود وفي المدن الأخرى لن يكون بمقدورهم الإدلاء بأصواتهم)،
عمل النظام خلال السنوات الأربعة الماضية على تجنيس أكثر من مليون شيعي عراقي وإيراني وأفغاني ولبناني من أعضاء الميليشيات المقاتلة ضد الشعب السوري
وأن يكون الاقتراع "الناخب بوساطة جواز سفره السوري العادي الساري الصلاحية، والممهور بختم الخروج من أي منفذ حدودي سوري"، وهو شرط يجعل معظم اللاجئين السوريين الذين لا يمتلكون وثائق وهم الأكثرية غير قادرين على الإدلاء بأصواتهم، ومن لديه جواز سفر فمعظمهم خلال 7 سنوات لم يعد ساري الصلاحية، ومن صلاحيته ما تزال سارية فهو في الأغلب خرج لاجئاً دون المرور بأي منفذ حدودي كان يسيطر عليه النظام، وهو أمر يعني تماماً إخراج أصوات اللاجئين (5 مليون) من الانتخابات.
على الأغلب ستتعرض هذه الشروط المريعة للتعديل بما يسمح لقسم لا بأس به من اللاجئين السوريين بالاقتراع، ولأن النظام يعرف ذلك فقد قام بتجنيس أكثر من 3 ملايين من المؤيدين (أبناء الأقليات المهاجرة) في أمريكا اللاتينية ممن تعود أصولهم إلى سوريا ولبنان وفلسطين، ومنحهم كافة الأوراق الثبوتية، بالإضافة إلى ذلك عمل النظام خلال السنوات الأربعة الماضية على تجنيس أكثر من مليون شيعي عراقي وإيراني وأفغاني ولبناني من أعضاء الميليشيات المقاتلة ضد الشعب السوري، بحيث يتاح لمقاتليه فرصة لمحاربة السوريين مرة أخرى من خلال صندوق الانتخابات،
إذا حصلت انتخابات يشارك فيها رأس النظام فسيكون هو المرشح الوحيد من طرفه، في حين سيكون للمعارضة العديد من المرشحين، من السهل التكهن من الآن بالأسماء الطموحة التي ستشارك في مثل هذه الانتخابات، مما سيؤدي بالضرورة إلى تشتيت أصوات المعارضة، وفي المناطق التي يسيطر عليها ما تبقى من النظام وحلفائه ستكون الأصوات على الأرجح لصالح النظام، فكل كلام عن بيئة محايدة وآمنة في ظل بقاء الجيش والأمن وبقاء القوات المعادية والميليشيات الأجنبية الطائفية الإرهابية (التي أدمج قسم منها داخل قوات الجيش) هو بمثابة بيئة آمنة لضمان النظام مصادرة جميع الأصوات لصالحه، لا يهم بعدها الحديث الفارغ عن الشفافية والرقابة الأممية هنا، فوسائل الضغط ليست مرئية مباشرة في الانتخابات في مثل هذا النوع من الأنظمة.
وفي دستور النظام 2012 – وهو دستور غير شرعي – تُحدد المدة القانونية لولاية رئيس الجمهورية بـ 7 سنوات، ويحق له الانتخاب لولاية ثانية (فقط)، أي يحق له البقاء في منصب الرئاسة 14 سنة أخرى! الانتخابات القادمة وفقا لدستور النظام الحالي تجري في 2021، وإذا أضيف إليها 14 سنة أخرى، سيكون بشار الأسد قد انقض مع حلفائه على المجتمع السوري، وصار قادراً أن يبقى "لـلأبد" ويورث ابنه حافظ (مواليد 2001) الحكم كما ورثه عن أبيه، وقتها يكون ابنه قد بلغ الرابعة والثلاثين، العمر نفسه الذي عُدل الدستور لأجل والده السفاح لكي يرث الجمهورية.
يحتاج موضوع الانتخابات نقاشا أعمق بالتأكيد، وما ذكرته ليس سوى بعض النقاط المهمة للتحفيز على التفكير في "لعبة الانتخابات" التي لا تتقنها المعارضة، ولا تملك تماسكا كافيا لخوضها، وسيكون نتيجتها الحتمية بكل حال فوز الأسد.