icon
التغطية الحية

لا راحة للمتخوفين من الذكاء الصناعي إلا بالعودة إلى التاريخ

2024.08.12 | 18:52 دمشق

أحد المباني التابعة لشركة إنفيديا - المصدر: الإنترنت
أحد المباني التابعة لشركة إنفيديا - المصدر: الإنترنت
The Economist- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

يزاول آندرو أودليزكو وهو أستاذ الرياضيات بجامعة مينيسوتا عملاً جانبياً بعد أن أصبح أحد أهم الخبراء في مجال تاريخ الفقاعات في المضاربة، إذ يمضي جزءاً من وقته في مصرف إنكلترا، حيث يصور صفحات من آلاف دفاتر الحسابات المكتوبة بخط اليد ليبحث فيها لاحقاً عن مظاهر إفراط ومبالغة حدثت في السابق، ويأمل هذا الرجل أن ينوب عنه الذكاء الصناعي التوليدي في أداء هذه المهمة الشاقة، كما لم يغب عن باله بأن أحدث حالة جنون في مجال المضاربات تدور حول التقانة بحد ذاتها.

خلال الأيام القليلة الماضية، هبطت قيمة الشركات التي حملت لواء الذكاء الصناعي وعلى رأسها شركة إنفيديا التي تصنع الشرائح إلى جانب هبوط قيمة أضخم شركات التقانة مثل أمازون ومايكروسوفت، وهذا ما جعل المشككين الذين حذروا من ظهور فقاعة في مجال التقانة يشعرون بأنهم أشخاص غاية في الذكاء، إذ إن كثيرين تحدثوا عن مرحلتين سابقتين لتضخم الاستثمارات في مجال معين بصورة مسعورة، أولهما أتت مع حالة الجنون في مجال الاستثمار بالسكك الحديدية خلال القرن التاسع عشر، والثانية كانت فقاعة الاتصالات في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وفي كلتا الحالتين، أتت حالات الإنفاق من رأس المال مماثلة للمبالغ الطائلة التي تعهدت كبرى شركات التقانة بإنفاقها على مراكز البيانات التي تحتل قلب ثورة الذكاء الصناعي.

فروق واضحة

يعتبر البروفسور أودليزكو مرجعية في كلتا الحالتين، إذ يجري الاستشهاد كثيراً ببحثه حول جنون الاستثمار بالسكك الحديدية في بريطانيا خلال القرن التاسع عشر، وقبل أن يصبح شخصية أكاديمية، عمل هذا الرجل في مؤسسة بيل لابس البحثية الشهيرة، والتي كان فيها من أوائل من شككوا في المغالطة التي ترى بأن استخدام الإنترنت أصبح يتضاعف كل مئة يوم، لكنه رفض الفكرة القائلة إن السكك الحديدية أو الإنترنت ما هما إلا دليل عمل مفيد للتفكير بالذكاء الصناعي التوليدي، لأن كلاً منها بدأ من موقع مختلف بحسب رأيه، إذ كانت شركات السكك الحديدية والاتصالات تعرف منذ البداية كم الأرباح التي ستجنيها، أي إن شركات السكك الحديدية عرفت أنها ستجني أرباحاً طائلة عبر تحويل حركة المرور إلى أشكال أخرى من النقل، أما شركات التقانة فكانت تعرف أنها ستحقق أرباحاً من خلال تفوقها على أشكال الاتصال والتسلية الأخرى، وقد تبين من خلال تقديرات حجم الكنز المتوقع الحصول عليه بأن الأمر كان مجرد هلوسة وتخاريف، بيد أن الأمر يختلف مع الذكاء الصناعي التوليدي، لأن إمكانياته التدميرية واضحة، ولكن حتى الآن لم يدرك أحد أهم استخداماته، أو كيف بوسعه تحصيل الأموال. ولهذا وجد البروفسور أودليزكو بأن ثورة الذكاء الصناعي تشبه طفرتي التلغراف والكهرباء في أميركا خلال القرن التاسع عشر، إذ تحدث وقتئذ آلازدير نيير عن المحركات التي تحرك الأسواق، والتي تمثل تاريخ الفقاعات الاستثمارية والفتيل المفيد الذي أشعل الأمور في كلتا الحالتين، بيد أن المؤسف في الأمر هو أن ذلك لن يطمئن المستثمرين اليوم.

طفرة التلغراف

يعتبر انتشار التلغراف نموذجاً يشبه إلى حد كبير طريقة تعامل شركات التقانة العملاقة مع الذكاء الصناعي التوليدي، إذ في بداية الأمر، ساعدت رسائل التلغراف كثيراً في جعل حركة القطارات أكثر سلاسة، ولذلك بنى ملوك السكك الحديدية، مثل كورنيليوس فانديربيلت شبكات للتلغراف إلى جانب المسارات الموجودة حالياً، تماماً كما تدمج كبرى شركات التقانة اليوم الذكاء الصناعي التوليدي بعروضها السحابية الموجودة قبلاً. وفي بداياتها، واجهت شركات التلغراف المستقلة مصاعب جمة، وفي أواسط القرن التاسع عشر ترافقت الاستثمارات الضخمة مع حروب ضروس في الأسعار، في وقت سعت فيه الشركات لحماية إقطاعاتها. بيد أن الربح لم يأت إلا بعد الحرب الأهلية التي زاد خلالها الاستخدام التجاري للتلغراف، وبذلك تحولت شركات مثل ويسترن يونيون إلى دجاجات بياضة.

طفرة القوس الكهربي

هذا ويتصل تاريخ بدايات الإنارة بالكهرباء بحالة شركة إنفيديا، إذ إن الكهرباء عملت مثل الذكاء الصناعي التوليدي على إثارة الحماسة الشعبية منذ البداية، بما أن الناس ظلوا طوال قرون يطالبون ببديل أرخص وأنظف من الشموع التي تحترق أو الزيت الذي يستخدم للإنارة، وكما هي حال شرائح الذكاء الصناعي التي تنتجها شركة إنفيديا، والتي تعرف باسم وحدات معالجة الرسوم والبيانات، تصدرت تقنية وحيدة تلك الصناعة، ألا وهي تقنية الإنارة بالاعتماد على القوس الكهربي والتي برز من خلالها اسم رائد الأعمال الأميركي تشارلز بروش الذي أسس شركة بروش الأنغلو-أميركية للإنارة الكهربية، فحلقت أسعار أسهمها عالياً عندما منحت رخصة تقانتها لشركات أخرى أسهم بروش في تمويلها. فازدهر هذا المشروع بفضل الأرباح التي تدفقت عليه، أما من وقفوا ضد المشروع فقد وسموا بأنهم يفتقرون للخيال المبدع.

انفجار الفقاعتين

لكن كلتا القصتين لم تنتهيا على خير، إذ بمجرد أن حققت شركة ويسترن يونيون للتلغراف نجاحاً تجارياً، تراجع الاعتماد عليها بعد اختراع ألكساندر غراهام بيل للهاتف الذي رفضه كثير من العقلاء وقتئذ، ومنذ ذلك الحين وأرباح الشركة تتراجع. أما بالنسبة للكهرباء، فقد اتضح أخيراً مدى غلاء الإنارة بالقوس الكهربي على هذا المشروع، ولذلك انفجرت فقاعة بروش. ثم أثبت توماس أديسون مدى تفوق الإنارة المتوهجة، فتحولت شركته التي تعرف باسم جنرال إلكتريك في نهاية الأمر إلى منارة للمشاريع الأميركية طوال القرن العشرين. لكنه من المبكر أن نحدد منذ الآن مصير جينسن هوانغ مدير شركة إنفيديا وهل سيخلده التاريخ كبروش أم كأديسون.

وهنا يأتي دور البروفسور أودليزكو ليشير إلى فكرتين إضافيتين، أولهما: أن معظم الطفرات الاستثمارية السابقة كانت مدعومة بأموال الحكومة، ولكن في هذه المرة كانت نفقات رؤوس الأموال على الذكاء الصناعي التوليدي مقدمة من كبرى شركات التقانة، والتي يصفها البروفسور بأنها غنية بشكل لا يتصوره عقل، ولهذا لا يوجد أي خطر يهدد باستنزاف خزائنها، أما الفكرة الثانية فترى بأنه في حال لم يتحقق الطلب على منتجات الذكاء الصناعي التوليدي، فعندئذ قد تبدأ الشركات العملاقة في مجال التقانة بالحد من إنفاقها على وحدات معالجة الرسوم والبيانات التي تصنعها إنفيديا، والخطر على تلك الشركة المصنعة لهذه الشرائح لا يتمثل في تراجع عدد الطلبات على شرائحها فحسب، لأن شركات التقانة قد تتخلص مما سيفيض عن وحدات معالجة البيانات في سوق السلع المستعملة، مما سيؤدي إلى انخفاض أكبر في الأسعار، وبذلك قد ينهار سعر سهم إنفيديا بحسب رأي البروفسور.

الشيء المؤكد الوحيد.. مفاجأة

دعونا لا نرفع سقف توقعاتنا كثيراً، إذ يقول روي أمارا وهو أميركي صاحب رؤى مستقبلية: "نميل إلى المبالغة في تقدير أثر التقانة على المدى القريب مع الاستخفاف بتقدير أثرها على المدى البعيد"، إذ لا أحد يعرف على وجه الدقة كيف سيكون تطبيق القتل الذي يعمل بواسطة الذكاء الصناعي، وهنا يتحدث البروفسور أودليزكو عن توقع قلة من الناس لمدى أهمية قطارات الركاب مقارنة بقطارات الشحن خلال طفرة السكك الحديدية، وينطبق الأمر نفسه على البريد الإلكتروني الذي حقق نجاحاً مفاجئاً في بدايات عصر الإنترنت.

ثمة درس آخر لابد لنا أن نتعلمه من التاريخ وهو أن الطفرات والنوبات يرافقها غالباً تشكيك اقتصادي كبير وتغيرات في كلفة الرساميل، ويبدو بأن ذلك يستقيم مع عصر الاضطرابات الذي نعيشه اليوم، لذا إن حالفنا الحظ، فإن موجة المبيعات الكبيرة التي حدثت مؤخراً سيقتصر دورها على إزالة الرغوة التي تعلو حالة المغالاة التي شابت الأسواق، ومع ذلك ينبغي على المستثمرين الاستعداد لمزيد من التقلبات في السوق بما أن هذه التقانة الناشئة والواعدة أصبحت تكتسب زخماً وقوة كبيرتين.

 

المصدر: The Economist