يسوّق صنّاع مسلسل "جوقة عزيزة" لعملهم باعتباره أول مسلسل بيئة شامية يرصد فنون تلك الحقبة، كالمسرح الاستعراضي و"الطقطوقة"، وتحديداً خلال فترة الاحتلال الفرنسي لبلاد الشام، بين عامي 1920 و1946، وبعد عرض أكثر من نصف حلقات المسلسل، شوّه العمل تاريخ تلك الفنون، وتعاطى معها بشكل سطحي لا يلائم تلك المرحلة الزمنية.
صناعة جديدة بعيداً عن "طقطوقة"
يفتقر العمل إلى البحث الحقيقي بالتاريخ الموسيقي والمسرحي، فما قُدم من أغانٍ ضمن المسلسل لم يكن استنساخاً أو إعادة صياغة أغاني تلك المرحلة، وإنما صناعة أغانٍ جديدة بعيدة كل البعد عن "الطقطوقة" في عشرينيات القرن الماضي.
وأوضح مثال على ذلك أغنية "أنتي مدرسة"، التي تم استنساخ لحنها من أغنية "الغزالة رايقة" التي صدرت قبل أشهر، والتي يؤديها ضمن المسلسل الطفل محمد أنور، الذي شارك في أداء الأغنية الأصلية، وتم التعاطي مع المنتج ضمن العمل باعتباره طقطوقة، لذلك فإن مناقشة مسلسل "جوقة عزيزة" من هذه الزاوية، يحتاج قبل كل شيء إلى الإضاءة على بعض التعريفات.
في لقاء أجراه موقع "تلفزيون سوريا" مع الناقد الموسيقي المصري، محب جميل، عرّف فن الطقوقة كما يأتي: "الطقطوقة هي قالب موسيقي اشتهر منتصف القرن التاسع عشر حتى نهاية أربعينيات القرن العشرين، والأغاني القصيرة التي نشهدها حالياً هي نوع متطور عن فكرة الطقطوقة، التي تتكون من مذهب ومجموعة من الخصال".
وأوضح جميل أن "المذهب هو المقطع الذي يتكرر على مدار الطقطوقة، والذي يعرف اليوم بالكوبليه، وأشهر مثال على الطقطوقة أغنية (غنيلي شوي شوي) لأم كلثوم، حيث يتكرر المذهب على مدار العمل كله بشكل ثابت، وتكون الكلمات بسيطة زجلية دارجة باللهجة العامية عند معظم المغنين".
وعن أغنية "أنتي مدرسة"، التي يتداولها الجمهور على السوشيال ميديا باسم "العزيزة رايقة"، يقول جميل إن "الأغنية هي تنويع لفكرة الطقطوقة بشكلها الحديث، وبالتأكيد شكل الأغنية غير متناسب مع الزمن الذي تدور به أحداث المسلسل أبداً، لأن طرح الأغنية بهذا الشكل الحداثي ومع هذا العدد من الآلات الموسيقية، وشكل الغناء والأداء لا يشبه فترة العشرينيات أو حتى الأربعينيات".
وأضاف الناقد الموسيقي المصري "أستغرب حقيقةً من فكرة استخدام الأغاني الحديثة، كان من المكن استخدام طقاطيق متوارثة أو طقاطيق معروفة من تلك الفترة، فكان من الممكن استنساخ تلك الأغاني في العمل وتوزيعها بشكل حديث دون أن تخرج عن روح تلك الفترة الزمنية، أو أن يتم استخدام تسجيلات وأسطوانات لمطربين ينتمون لتلك الحقبة الزمنية"، مشيراً إلى أنه "يبدو وجود أغنية أنتي مدرسة، التي تبدو كتنويعة للطقطوقة بتأثير موسيقا المهرجانات، غريباً في مسلسل عن تلك الحقبة".
مسرح استعراضي أم استعراض أم بيوت دعارة؟
يسخّف المسلسل فن المسرح الاستعراضي الذي كان قائماً في تلك الفترة، ويشوّه سمعته، فيخلط بينه وبين بيوت الدعارة، لتكون "جوقة عزيزة" تمتلك العديد من البيوت التي تعمل فيها الفتيات بالدعارة وفي الوقت ذاته يعملون بجوقتها.
كما يتم الخلط بين مصطلح المسرح الاستعراضي والاستعراض، فالمسرح الاستعراضي يكتب له نص درامي ويتكون من عدة مناظر (مشاهد)، ويتخلل تلك المشاهد أغاني تخدم الدراما في المسرحية، وبالتالي فإن الأغنية جزء من العرض، وحذف أي أغنية منه يؤثر على الدراما، وفيه تتم الاستعانة براقصين وممثلين وموسيقيين.
ووفق المؤرخ والناقد د. سيد علي إسماعيل فإن أول مسرحية استعراضية عُرضت في مصر كانت للمخرج الفرنسي دارسيه، الذي كان يقدم عروضاً فنية في مسرح كازينو "دي باريس" بالقاهرة، وهو أول من استخدم الجوقات والأوبريت الشرقي، عندما أعلن عن عروضه في إعلانات الصحف، وأعلن عن عرضه المسرحي بعنوان بـ "استعراض المناظر" في العام 1917.
أما الاستعراض، فكان يحتوي على عدد قليل من المشاهد الهزلية غير المترابطة، التي تتخللها بعض الأغاني يكون الغرض منها ترفيه الجمهور.
إذاً ما يتم تقديمه في "جوقة عزيزة" أقرب للاستعراض الذي كان يقدم في الحانات الشعبية، ولا يمكن وصفه بالمسرح الاستعراضي كما يدعون، وفي هذا السياق، يقول الناقد محب جميل "لم أستطع مشاهدة معظم الأحداث في المسلسل، ولكن أستطيع القول إنه تم تقديم استعراضات غنائية في الصالات والكازينوهات في السابق، كان يؤديها مجموعة من المونولوجيست، أو مجموعة مطربين ومطربات، ممن يعملون في تلك الصالات".
وأضاف جميل "الاستعراضات كان يتم تقديمها في إطار تمثيلي بسيط أو كوميدي هزلي، أما فكرة المسرح الغنائي فهي مختلفة عما يُقدم في الصالات، كسيد درويش أو سلامة حجازي، الذين كانوا يقدمون مسرحا غنائيا مبنيا على مجموعة من المسرحيات والروايات التي تتم كتابتها على هيئة روايات أو قصص مكتملة تخدم العرض، وتكون مكتملة الشخوص والأحداث، ومليئة بالدراما أو الفكاهة، والأغاني فيها تكون جزءاً من النص المكتوب وغير منفصلة عنه".
وأشار إلى أنه "للأسف، مجموعة كبيرة من أغاني سيد درويش يتم اقتطاعها حالياً من السياق الذي كانت تقدم به، أما المسرحيات التي كانت تقدم في الكازينوهات، فكانت بديعة مصابني، التي كانت تملك آنذاك كازينو باسمها، وكانت تقدّم استعراضا من فصل أو فصلين كحد أقصى، يتخللهما غناء بسيط لها أو بمشاركة مطرب أو أكثر لأداء هذه الاستعراضات".
ولفت الباحث والناقد الموسيقي إلى أنه "ربما يقصدون بالمسلسل بهذه المصطلحات غير الدقيقة الاسكتشات الغنائية الاستعراضية أو فكاهية، التي كانت تقدم بشكل استعراضي مع مجموعة من الرقصات الترفيهية للجمهور وكان به محاكاة أكثر لأغاني الصالات أو الكازينوهات الموجودة في تلك الفترة، لكن من الواضح وجود فجوة في تقديم عمل موديرن، يتحدث عن فترة زمنية معينة، فالسياق الفني العام الذي يقدم به وطبيعة تقديم الأغنيات والموسيقا المطروحة به بعيدة تماماً عن روح تلك الفترة".
لغط في المصطلحات والتاريخ والتصنيف الفني
يجهد صناع المسلسل في توصيف شخصية "عزيزة" على أنها فنانة تسعى لأن تكون فنانة شاملة، وأن الصحافة العربية تقوم بالتسويق لها على هذا النحو بمصطلح "الفنانة الشاملة"، وافتتح مسرح باسمها، ويتم وصفها أيضاً بأنها تسعى إلى أن تكون "ملكة المسارح"، كالفنانة منيرة المهدية، وهنا نرى اللغط في المصطلحات والتاريخ، فمنيرة المهدية كانت تلقب بسلطانة الطرب، وما افتتحته كان ملهىً وليس مسرحاً، وباسم "نزهة النفوس" وليس باسمها، وحينئذ لم يكن مصطلح الفنانة الشاملة مستخدماً بعد، وكان لقب "ملكة المسارح" للفنانة بديعة مصابني.
وفي السياق التاريخي، يقول الناقد محب جميل "من خلال قراءتي للأرشيف الفني والصحفي الذي يتناول الموسيقا في العشرينيات، لم يكن مصطلح الفنانة الشاملة موجودا أبدا، ففي فترة دخول الأسطوانات إلى مصر عام 1903، كان هناك مصطلح الفنانة العالمة، ولم يقصد بها الراقصة، وإنما تدل على المطربة التي كانت تجيد غناء الطقاطيق وتؤدي الأدوار التي يؤديها الرجال، وأغلب الفنانات في تل الفترة كان يُدلل عليهم بكلمة (عالمة)، أشهرهم كانت سلطانة الطرب منيرة المهدية".
وأضاف "أيضاً ظهر مصطلح (أرتيست)، ويقصد به الفنانة التي تمتلك صالة تقدم بها مجموعة من الاسكتشات، أو الاستعراضات الغنائية، أو مسرحيات من فصل واحد وبعض الأغاني البسيطة التي تتناسب مع المواقف المطروحة بها، أشهرهم ملكة المسارح بديعة مصابني، التي كانت تغني وترقص ودخلت شاشة السينما".
لم يكن دارجاً بين النقاد والصحفيين في تلك الفترة، أي الفترة الملكية بين العشرينيات والأربعينيات، استخدام مصطلح "الفنانة الشاملة"، وإنما كان يستخدم كلمة "أرتيست"، أو "عالمة"، أو "فنانة"، ومع دخول الإذاعة المصرية وجد لقب مطربة مثل أم كلثوم وفتحية أحمد.
ولم يظهر مصطلح "الفنانة الشاملة" حتى نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، وذلك نتيجةً لوجود مجموعة من الممثلات اللواتي أدين استعراضات في أفلامهن، مثل سعاد حسني ونيلي، اللواتي يعتبرن نماذج بارزة جداً في تلك الفترة. ووفقاً لذلك تبدو شخصية "عزيزة" أقرب إلى "الأرتيست" من أي توصيف آخر.
أغان معدلة وأزياء مصممة للموضة
ومن جانب آخر، عُرضت الأغاني في العمل مسجلة وممكسجة، ونلاحظ تأثيرات التعديل الصوتي عليه بوضوح، الأمر الذي لا يتناسب أبداً مع المرحلة، وهو خطأ لا يقع فيه مخرجو مسلسلات البيئة الشامية أو المسلسلات التاريخية عادةً، فحتى مسلسل "باب الحارة"، قدّم جميع الأغاني في الأعراس والحمامات والمقاهي بأداء مباشر، دون تعديل وإدخال مؤثرات لا تناسب الزمن.
أما الأزياء، فاستوحيت ملابس المسلسل من فترة العشرينيات، وأعيد تصميمها بهدف إظهار الممثلات بشكل جذاب، وفي هذا السياق تقول ريما داوود، التي تدرس تصميم الأزياء في فرنسا، إن "أزياء المسلسل مستوحاة من العشرينيات بالفعل، وتستخدم أقمشة كالدانتيل التي كانت دارجة حينئذ، لكن هناك فرق كبير بين تصميم الأزياء للموضة وتصميم الأزياء لأعمال الدرامية".
في الأعمال الدرامية يجب أن تتم مراعاة الفترة التاريخية، فالأزياء مصممة لتظهر بها الممثلة نسرين طافش بشكل جذاب، وليس لإعادة تصوير شكل فنانات الاستعراض بذلك الزمن، فالأزياء تفتقد روح شخصية "عزيزة"، ويمكننا أن نلمس ذلك من خلال مقارنتنا للأزياء في المسلسل مع الصور الموجودة عن الأزياء في العشرينيات، لنرصد الفرق الكبير بينهم.
ولذلك كان من الأجدى لصناع المسلسل استنساخ الأزياء من موديلات العشرينيات بدلاً من صناعة أزياء جديدة مستوحاة منها، أما فيما يخص المكياج، فهو كارثي، ولا يمت للعشرينيات بصلة، بل يزيد من مشكلة الهيئة التي تظهر عليها الممثلات.