لمع نجم الكاتب السوري سعد الله ونوس (1941 - 1997)، في مجال التأليف المسرحي، بعد هزيمة حزيران 1967، مع ظهور مسرحيته "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، وتقديمها على عدة مسارح في سوريا ولبنان.. كذلك عُرضت، خلال السنتين التاليتين لصدورها، في كل من العراق والسودان والجزائر.
يمتلك سعد الله ونوس الكثيرَ من مقومات النجاح، ولكن عامل "الهزيمة الحزيرانية" التي مُنيت بها الأمة العربية في أول مواجهة لها مع إسرائيل (بجيوش نظامية)، كان أبرزَ تلك العوامل، فالهزيمة (ورفضها) أضافت له، ولكثيرين من أبناء جيله، أهميةً خاصة؛ لأن سردياتها وظروفها وتأثيراتها المختلفة تغلغلت في وجدانهم، وانعكست في أعمالهم الإبداعية، حتى أصبح تعريفُ أدباء السبعينات بالاستناد إلى هزيمة الـ 67 شائعاً في النقد والصحافة، بدليل أن محمد الماغوط كتب تقريظاً للشاعرة حميدة نعنع التي ظهرت في تلك الفترة، على غلاف مجموعتها الشعرية "أناشيد امرأة لا تعرف الفرح"، قال فيه: إنها وردةٌ نمت مصادفة في مزهرية حزيران!
لم يسمع سعد الله وأبناء جيله بالهزات الكبرى التي تعرضَ لها وطنُهم سماعاً، بل إنهم عاشوها بأعصابهم وكياناتهم، ودفعوا ثمنها بالاشتراك مع كل أبناء الشعب. ومن المؤشرات المهمة على هذا، أن الشاب سعد الله ونوس، المولع بعالم الكتب مذ كان في الثانية عشرة من عمره، قد حصل على شهادة الثانوية العامة في أثناء الوحدة مع مصر (1959). والوحدة؛ بحد ذاتها، كانت قطيعة مفاجئة لسياق التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي كانت سوريا تحبو فيه؛ متلمسةً حياةً برلمانية تعددية وديمقراطية جديدة، وحلت محلها تجليات حلم قومي فضفاض، بقيادة فردية متسلطة للرئيس جمال عبد الناصر، ما أدى إلى زلزلة كيان الدولة السورية، وإلغاء لكل تجليات الحرية السابقة، وخلق واقع خطابي عسكري بوليس مؤلم.
ولكن الوحدة، في حينها، لم تكن تُعْتَبر عملاً سيئاً، فالناس -في تلك الحقبة- لم يفلسفوا الأمور بطريقتنا المتأخرة هذه، والحقيقة أن الكثيرين من الشباب السوريين أحبوها، وآمنوا بها، وأصبحوا، على نحو ما، قوميين وحدويين.. وكما هو معلوم أن الميول القومية جعلت الأديب بوعلي ياسين ينتسب إلى حزب البعث قبل سفره إلى ألمانيا، ولكنه سرعان ما تخلى عن البعث، واعتنق الشيوعية، وأما سعد الله ونوس فكان شيوعياً منظماً، محتفظاً باهتمام كبير بقضايا الشعب العربي، وفوق هذا كان يهتم بالديمقراطية، وقد تحدث عن الديمقراطية باستفاضة خلال حوار متلفز أجراه معه المذيع سفيان جبر، مركزاً بشكل خاص على ما قاله العميد طه حسين، بأن الكاتب الحر يحتاج، في المقام الأول، إلى قارئ حر.
وبهذا النَفَس الماركسي- القومي- الديمقراطي، كتب سعد الله ونوس معظم أعماله المسرحية.
حصل سعد الله، بعد نجاحه في الشهادة الثانوية، على منحة لدراسة الصحافة في القاهرة (أم الدنيا، وعاصمة الجمهورية العربية المتحدة)، ولكن، ما هي إلا برهة صغيرة من عمر الشعوب، حتى وقع الانفصال (1961)، وصار حال الدولتين المتحدين ينطبق عليه المثل المصري القائل: خالتي وخالتك وتفرقوا الخالات.
لم يستفد سعد الله ونوس من مقالات المديح التي تناولت أعماله، بقدر ما استفاد من آراء مهاجميه، المشككين بمصداقيته
سببَ الانفصالُ لسعد الله هزة نفسية قوية كتب عنها مسرحية (لم تنشر)، ثم إنه تخرج سنة 1963، وعُين في وظيفة بوزارة الثقافة السورية 1964.
لم يستفد سعد الله ونوس من مقالات المديح التي تناولت أعماله، بقدر ما استفاد من آراء مهاجميه، المشككين بمصداقيته، فمع أنه أطلق على الهزيمة اسماً ساخراً هو "حفلة سمر"، وأراد فيها – على ما أعتقد – أن يتجرأ على نقدِ ما كان النظامُ السياسي يمنع نقده، أعني الهزيمة، فقد ذهب بعض النقاد إلى الزعم بأن هذه المسرحية تعد (تنفيساً) للجماهير، ومن المماحكات التي لا طائل من ورائها تلك التي تقول إنه والى السلطة، وهذا ليس صحيحاً، فسعد الله، ينطبق عليه ما قاله الصحفي الفلسطيني راشد عيسى، في برنامج "خارج النص": إنه كان يطمح لأن يكون واحداً من التنويريين العرب الكبار، ومثاله الأبرز هو طه حسين.
من هذا المنطلق نجد أن النص الأكثر تعرضاً للانتقاد من أعمال سعد الله ونوس كان مسرحية "طقوس الإشارات والتحولات" دار الآداب 1994، لأنها، ربما، خطت خطوة شجاعة نحو انتقاد الموروث الاجتماعي، ورجال الدين المتزمتين، وهو، كعادة أدباء تلك المرحلة، كان يطلق عليهم اسم "الرجعيين"، ويقول، في مقال لاحق، إن الرجعية هي التي حاربت أبا خليل القباني، وحاولت إجهاض تجربته المسرحية الرائدة، ومعلوم أن سعد الله اهتم كثيراً بالقباني، وأطلق على إحدى مسرحياته اسم "سهرة مع أبي خليل القباني".
لم يكن سعد الله يكتب المسرحيات، ويطبعها، ويمضي في حال سبيله، بل إنه كان يتابع العمل مع الفريق المسرحي الذي يقدمها، فيضيف ويحذف ويعدل بما يتناسب مع تحقق عنصر الفرجة، وهو من أول المسرحيين الذين دعوا إلى إزالة الحاجز مع الجمهور، بل وإشراكه في العملية الإبداعية، ولعله قد وجد ضالته في صديقه فواز الساجر الذي عاد من الدراسة في موسكو متسلحاً بنظرية ستانسلافسكي في إعداد الممثل، ودخل معه في تجربة جديدة أطلقا عليها اسم "المسرح التجريبي"، سنة 1976، وأوضح سعد الله، في حوار معه، أن المخرج المبدع هو من يقدم النص المكتوب برؤية جديدة، وليس مَن يقوم بـ (تنفيذ) النص المكتوب.
توقف سعد الله ونوس عن الكتابة بعد اجتياح بيروت، 1982، وبقي متوقفاً إلى أن أصيب بالسرطان، في مطلع التسعينات، وفي إحدى تلك السنوات كُلف بإلقاء كلمة المسرح العالمي، أضف إلى ذلك أنه اشتغل، بعد الإصابة، على نحو محموم، في كتابة كل ما كان يتشهى كتابته، وبمنتهى الشجاعة، وهكذا دخل في صراع مع الزمن، فاستمر يكتب وينتح ويطبع حتى مات.
كتب حازم نهار: إن نص (وصية - لا وصية) الذي كتبه سعد الله ووجهه إلى ابنته، وجيلها، والأجيال التي تليها، من أصدق الوصايا وأكثرها تواضعاً. يقول ونوس فيه: ليس في نيتي أن أقدم لكم أية وصية. لأني لا أملك هذه الوصية. ولأن أية وصية لا تبلورها التجربة، والمعاناة، هي نوع من اللغو والإنشاء. كثيراً ما حلمنا أننا سنترك لكم زمناً جميلاً ووطناً مزدهراً.. لكن علينا أن نعترف، ودون حياء، أننا هُزمنا وأننا لم نترك إلا خراباً، وبلاداً متداعية.