ركب السوري مصطفى على متن قارب مكتظ، وبعد جلوسه في المكان نفسه لساعات، لم يكن لديه أي مجال لتحريك قدميه، رغم أنه سبق أن أصيب في عام 2011، ما جعله يعرج في مشيه، بعدما ساعده رجال الإنقاذ في منظمة "أطباء بلا حدود" للانتقال إلى قوارب النجاة.
وفي واحدة من القصص الكثيرة التي تروي معاناة اللاجئين السوريين، التقت كانديدا لوبس، مديرة التواصل الإعلامي على سفينة "جيو بارنتس" مع مصطفى وأبنائه في 23 تشرين الثاني الماضي، وسط البحر الأبيض المتوسط، لتنقل قصة نجاة من أهوال البر والبحر، وفق تقرير لمنظمة أطباء بلا حدود.
قارب مكتظ للغاية
حين وصلت كانديدا لوبس إلى مصطفى ونجله، لتقديم المساعدة لهما ووضعت بطانية حرارية على أكتافهم، لاحظت أن بعض الكلمات مكتوبة باللغة العربية على ذراع عليّ اليمنى.
ونقلت "لوبس" عن مصطفى قوله "كنت أخشى ألا أتمكن من النجاة، فكتبت على ذراع عليّ اسم والدته ووسائل التواصل معها"، على أمل أن يعتني أحد بعلي في حال أصابني مكروه"، مشيراً إلى أنها ما تزال في سوريا.
وروى مصطفى قصته قائلاً: "عندما رأيت عدد الأشخاص الذين كانوا يستقلون القارب في ليبيا، أدركت أنه مكتظ للغاية. شعرت بخوف كبير، وأردت أن أغادر القارب، صحت في المهربين كي يتركونا وشأننا. إلا أن الأوان كان قد فات، فالرجل الذي دفعت له لأهرب، صرخ في وجهي وأمرني بالتوقف وهدد بقتل أبنائي بسلاحه"، مبيناً "لم يكن أمامي أي خيار".
في منتصف تشرين الثاني الماضي، أجرى فريق أطباء بلا حدود عملية بحث وإنقاذ صعبة على بعد أقل من 30 ميلاً بحرياً من الساحل الليبي، وأنقذ الفريق خلالها 99 ناجياً، من ضمنهم مصطفى وأبناؤه، قبل نقلهم إلى سفينة "جيو بارنتس".
يحكي مصطفى، وهو يحتضن ابنه الأصغر علي، كيف أصيب الناس بالذعر عند تغير أحوال الجو، لا سيما أن القارب حمل نساءً وأطفالاً، "تملّكهم الخوف وبدؤوا بالبكاء. بدأ الكثيرون بالبكاء والصراخ وباتوا يتحركون على متن القارب بدافع اليأس. لم يكن بوسعي فعل أي أمر، إلا أن أدعو الله أن يبقي أبنائي على قيد الحياة".
نجاة 99 من أصل 109
انطلق القارب الخشبي من زوارة ليلة 15 تشرين الثاني، وكان على متنه 109 أشخاص، من بينهم مصطفى وأبناؤه.
وفي وقت مبكر من بعد ظهر اليوم التالي، وصلت "جيو بارنتس" إلى القارب الذي يواجه الخطر، ونجحت الفرق في إنقاذ 99 شخصاً، لكنها عثرت أيضاً على جثث عشرة أشخاص وجدوا على السطح السفلي من القارب، يرجح أنهم توفوا اختناقاً بسبب أبخرة الوقود.
من جانبها قالت لوبس: "أخبرَنا الناجون أن هؤلاء الأشخاص أمضوا أكثر من 13 ساعة على السطح السفلي الضيق"، مشيرة إلى أن "بعض الركاب لم يكونوا على دراية بما كان يحدث لأصدقائهم أو أفراد عائلاتهم في الطابق السفلي، بينما اضطر آخرون للسفر لساعات بجوار جثث المسافرين المتوفين".
وأشارت إلى أن الأهوال التي خاضها هؤلاء المهاجرون من أجل هذه الرحلة العصيبة تكشف عن معاناتهم السابقة.
وقال مصطفى الّذي يجلس على الأرض وهو يعاني من ألم في ساقه، "لا أطمح إلى تحقيق أي أمر في حياتي، كل ما أريده أن يعيش أبنائي حياة كريمة، أريدهم أن يعيشوا بأمان وأن يحصلوا على تعليم جيد".
وضع مصطفى مثبتا حديديا داخليا في ساقه اليمنى، وبات لا يمكنه المشي من دون أن يعرج، وقال إنه يعاني من الألم منذ العام 2011، إذ أصيبت ساقه بصورة بالغة في سوريا، واضطر الأطباء إلى تركيب مثبت.
وأردف مشيراً إلى ندبة ما زالت ظاهرة على رأسه بعد فترة طويلة، "وجدني رجال مسلحون، بينما كنت في متجري. أقفلوا الباب، وأبرحوني ضرباً بأعقاب بنادقهم وبكل الأدوات المتاحة. فقدت وعيي، فظنوا أنني مت. وبعد بضع ساعات، استيقظت بشارعٍ فارغ خلف مبانٍ مهجورة وكنت مغطياً بدمي ورجلي مكسورة".
رحلة طويلة من جنوب دمشق إلى البحر
ينحدر مصطفى من منطقة ببيلا، التي تقع في إحدى ضواحي دمشق الجنوبية، التي حوصرت لمدة أربع سنوات من قبل قوات نظام الأسد وعندما رُفع الحصار في عام 2015، قرر مصطفى الفرار من الحرب مع أبنائه الثلاثة. كان علي يبلغ من العمر سنة واحدة آنذاك.
قطعت العائلة رحلة طويلة وصعبة، فقضت قرابة شهر في السودان قبل أن تنتقل إلى مصر، حيث عانت ظروفاً معيشية صعبة.
وفي أيلول 2021، وجد مصطفى نفسه عاطلًا عن العمل يحمل جوازات سفر منتهية الصلاحية، فاتخذ قراراً صعباً بالذهاب إلى ليبيا لمحاولة العبور بالبحر الأبيض المتوسط.
أراد مصطفى أن يمنح أبناءه فرصة الالتحاق بالمدرسة على الأقل، فعبرت العائلة الحدود من مصر إلى ليبيا؛ ثم مروراً عبر بنغازي وطرابلس إلى صبراتة وزوارة للعثور على القارب الذي أنقذته سفينة "جيو بارنتس".
تفكر لوبس في الأحداث التي مر بها علي قائلة، "لا أفهم كيف اضطر طفل مثل علي، بابتسامته الرقيقة ولطفه البالغ، أن يمضي حياته كلها بالفرار، كما لا يسعني أن أستوعب أنّ أباً محباً كمصطفى لم يجد أمامه أي خيار إلا أن يخاطر بحياة أبنائه ويعبر البحر الأبيض المتوسط على متن قارب بحثًا عن فرصةٍ لتعليمهم".
وأضافت لوبس: أن "الواقع الّذي يعيشه الأشخاص بمحاذاة الحدود الأوروبية مشين بالفعل، إذ إن سياسات الهجرة غير المسؤولة والمتهورة تدفع بأشخاصٍ مثل مصطفى وعائلته للمخاطرة بحياتهم".
كم لاجئاً قضى بالبحر الأبيض المتوسط في 2021؟
وفي عام 2021، بلغ عدد المتوفين والمفقودين نحو 1,303 أشخاص من بينهم أطفال بسبب محاولتهم عبور البحر الأبيض المتوسط في رحلة خطيرة.
وبلغ عدد الأشخاص الّذين لقوا حتفهم أو فُقدوا نحو 22,825 شخصاً منذ عام 2014، بحسب المنظمة.
ومنذ إطلاقها أنشطة البحث والإنقاذ في 2015، نشرت منظمة أطباء بلا حدود فرقها الطبية على متن 8 سفن إنقاذ، وشغّلت في أحيانٍ أخرى السفن مع منظمات أخرى.
في المجموع، قدمت فرق منظمة أطباء بلا حدود، المساعدة لما يزيد على 82 ألف شخص، أما سفينة البحث والإنقاذ، "جيو بارنتس"، فقد استأجرتها المنظمة، وبدأت عملياتها في شهر أيار الماضي، وتم إنقاذ ما مجموعه 1,345 شخصاً على متنها، حتى الشهر الماضي.