"قتل الشرف" بين الفقهاء وفتوى المجلس السوري

2019.03.13 | 17:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عالج مقالي السابق حول فتوى المجلس السوري بخصوص قتل الشرف، ولكن بعضهم حاول حَرْف النقاش إلى أبعاد شخصية تارةً، وأيديولوجية (كالعلمانية والحداثة) تارة أخرى، ونظرًا لخطورة إضفاء شرعية على صورة من صور ما يُسمى "قتل الشرف" (وهي القتل في حالة التلبس بالزنا)، وخطأ نسبة ذلك إلى الفقه الإسلامي، أود أن أوضح موقف المذاهب الفقهية المعتبرة من هذه المسألة التي خاض فيها المجلس السوري دون رويّة أو تدقيق حيث خرجت صياغته عن طريقة الفقهاء ومذاهبهم في حكاية الأحكام وتعليلها، خصوصًا أنني لم أطلع على فتوى معتبرة توضح هذه المسألة في الفتاوى المتاحة على الإنترنت، فقمتُ بواجب البيان للناس في هذه المسألة العويصة التي يدور الجدل حولها في عدد من الدول. ثم إنني وجدتها مناسَبة جديدة لتطبيق منهجي الذي أسميته "النظام الفقهي" على هذه المسألة إضافة إلى مسائل أخرى سبق لي تطبيقه عليها كالإجهاض وغيره.

أخفقتْ فتوى المجلس السوري في تحديد (موجب القتل) من الناحية الشرعية، وهو ما دار عليه السؤال الذي حاولتْ الإجابة عليه. وتحديدُ موجب القتل لا يخرج عن واحد من اثنين: إم نص أو اجتهاد. وإذا كان نص القرآن غير محدد في هذه الصورة بل هو أعم، فإن نص السنة النبوية يتناول مسألة قتل الزاني المتلبس بفعل الزنا وأنه لا يجوز قتله وهو ما سنوضحه في ختام هذا المقال. بقي بيان مآخذ الفقهاء والمفتين، ولأن المجلس السوري لا يدعي الاجتهاد المستقل فلا بد من أن يسلك مسالك الاجتهاد الفقهي المعتبرة لدى الفقهاء، وتتلخص في: إما حكاية نصوص الفقهاء في هذه الحالة تحديدًا أو القيام بالتخريج بأن يقيس هذه المسألة على مسائل منصوصة في كتب الفقهاء وفي هذه الحالة لا بد أن يذكر لنا الفرع الفقهي أو الأصل الذي قاس عليه المجلس هذه المسألة وما العلة الجامعة بين المسألة التي نحن بصددها والأصل المقيس عليه، وهو ما لم يفعله في الحالتين: لا في النقل عن نصوص الفقهاء ولا في التخريج على الفروع الفقهية.

إن نص الفتوى صيغ بلغة سياسية ماكرة لا بلغة فقهية على طريقة العلماء، ويمكن أن يُفهم هذا في ضوء أن الهدف الرئيس من وراء تأسيس المجلس السوري هو تأسيس مرجعية دينية يكون لها دور سياسي، وحتى نتجنب مماحكات بعض المدافعين عن الفتوى، ونبين المكر الذي حوته تلك الصياغة نسوق مجددًا الجزء محل الإشكال من الفتوى. يقول نص الفتوى: (الغيرةُ على العرض صفةٌ محمودةٌ، والدفاع عن الشرف ممدوح ويدل على كمال النفس ... الصورة الأولى [من قتل الشرف]: أن يُفاجأ الشخص بزوجته أو إحدى محارمه كأخته أو ابنته متلبسة بجريمة الزنا مع رجل أجنبي فيقوم بقتل الفاعل وقد يقتلهما معاً. فإذا أقام القاتل بينة على جريمة التلبس بالزنا بالشهود أو بإقرار أولياء المقتول، فأقوال الفقهاء على عدم القصاص من القاتل على أساس الدفاع عن حق الله، ومن باب الغيرة المنسجمة مع الفطرة، ولأنه داهمه غضب لا يستطيع أن ينفك عنه، ويمكن أن يعاقب أو يعزر بما هو دون القصاص، والمحاكم تراعي هذه الحالة النفسية فتخفف الحكم عن القاتل قدر الإمكان. وأما إن لم يُقم البينة، فقد ذهب الجمهور إلى أنه يُقتص منه؛ حفظاً للنفوس ومنعاً لقتلها بالظنون والشكوك في غير محلها، وقيل: لا يُقتص، وهذا أمرٌ راجع لنظر القاضي وتقديره). وهذه الفقرة تثير المشكلات الآتية:

  1. تعتبر أن (الغيرة على العرض، والدفاع عن الشرف) وصفٌ معتبرٌ شرعًا، وتتركه بصيغة مبهمة غير منضبطة وهو خلاف طريقة الفقهاء، فضلاً عن أن الغيرة والشرف في هذا السياق ليست من لغة الفقهاء ولا من الأوصاف التي تدور عليها الأحكام الشرعية. خصوصًا أن (قتل الشرف) وصفٌ حديث تابع لبعض العادات والتقاليد القبلية أو العشائرية التي تتوسع في استعماله جدًّا. وثمة تساؤلات عديدة تدور حول هذا المفهوم سنوجهها إلى المجلس السوري في آخر هذا المقال.
  2. الفتوى لا تميز بين المرأة المكرهة على الزنا وبين المرأة المطاوعة وهو تمييز ضروري قام به الفقهاء ونصوا عليه في كتبهم، ولهذا التمييز أحكامه المتمايزة.
  3.  الفتوى لا تميز بين أحوال الزاني وما إذا كان محصنًا أو غير محصن، ولا تميز بين المرأة المزني بها إذا كانت محصنة أم غير محصنة، ولكل حالة حكمها المختلف بحسب المذاهب الفقهية بل عممت القول زوجة أم محرم (أخت أو بنت) وهو خلاف المذاهب الفقهية المتبوعة.
  4. تتجاهل الفتوى كلام الفقهاء في اشتراط الترتيب في دفع الزاني وأن الزوج أو المحرم لا يبدأ بالقتل بل يبدأ بالأخف ثم الأشد، فإن اندفع بالأخف لا يلجأ إلى الأشد، بل إن الفقهاء اشترطوا في المعتدَى عليها أنها إن أمكن لها دفع المعتدي بالأخف لا يجوز لها قتله، فكيف بالزوج والمَحرم؟!.
  5. تعليلات الفتوى لعدم القصاص من القاتل هي (الدفاع عن حق الله، ومن باب الغيرة المنسجمة مع الفطرة، ولأنه داهمه غضب لا يستطيع أن ينفك عنه) وهي تعليلاتٌ مخالفة لتعليلات فقهاء المذاهب المتبوعة في هذه المسألة كما سيتضح.
  6. تفتح الفتوى الباب للتساهل في ارتكاب جريمة قتل الشرف في هذه الحالة من خلال ثلاثة أمور: أولها أنها تخلو من أي عبارة تنهى عن ارتكاب فعل القتل سواءٌ للزاني أم الزوجة أو المحرم، ثانيها: أنها تضع هذا الفعل في سياق ممدوح وهو أنه "غيرة" و"دفاع عن الشرف"، وثالثها: أنها تصوغ عبارات مترددة وليست حاسمة في عقوبة الفاعل، فإن أقام البينة تقول الفتوى: (يمكن إن يعاقب أو يعزر) أي أن عقوبته محتملة وليست مؤكدة، وإن لم يقم البينة تقول الفتوى إن هناك قولاً بأنه لا يُقتَص منه في هذه الحالة، وإن الاختيار بين معاقبته وعدمها فيما لم يقم بينة متروك للقاضي وتقديره. ومن المهم أن نستحضر هنا أن المجلس السوري له صلة بمحاكم شرعية في بعض الأراضي السورية التي تخضع لسلطة محلية وليس لها مرجعية قانونية موحدة أو صلبة ولا نعرف عن مؤهلات القضاة فيها وتكوينهم، أي أن الفتوى تفتح الباب لاجتهادات تبريرية لقتل الزاني والمزني بها في حالة التلبس. فالفتوى لم تقدم رأيًا شرعيًّا حاسمًا من جهة، ولم تلتزم بنقل أقوال الفقهاء بدقة، بل أخلت بمذاهبهم من جهة أخرى كما سنوضح.
  7. خلطت الفتوى بين تبرير عدم القصاص وهي مسألة قضائية، وتبرير القتل وهي مسألة ديانية، فتورطت في تبرير القتل لا تبرير عدم القصاص، والسؤال كان عن حكم القتل لا القصاص ولا الزنا!

نعود الآن إلى بيان مذاهب الفقهاء وكيف أن فتوى المجلس تخالفها وتنحاز لعرف اجتماعي جزئي على حساب الشرع ونصوص الفقهاء، فنقول: إن كتب المذاهب منذ الإمام الشافعي وعبر القرون تتحدث عن هذه الحالة المحددة التي نتحدث فيها وهي حالة الرجل (إذا وجد رجلاً يزني بامرأته أو غيرها) وذلك في أبواب عدة، أهمها ثلاثة: دفع الصائل، والتعزير، والجنايات. ومن خلال هذا التصنيف والتعليلات التي يقدمها الفقهاء للمسألة ندرك أن هذا الفرع الفقهي أو المسألة تندرج تحت ثلاثة أصول هي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحدود والتعزيرات، ودفع الصائل، ولكل أصل قواعده ومنطقه الحاكم عند الفقهاء، وهذا الجمع بين النظرين الكلي والتفصيلي يساعدنا على الآتي:

  1. إدراك المنظومة أو ما أسميته في دراساتي "النظام الفقهي".
  2. فهم كلام الفقهاء بصورة مكتملة؛ لأنهم قد يذكرون المسألة في باب بلا قيد ثم يشيرون إليها في باب ثانٍ بالقيد أو يستغنون بذكر القيد في أصل الباب، وحين يذكرون المسألة مجردة عن القيد يتّكِلون على فهم القارئ للقيد المذكور سابقًا، فيأتي الناظر المتسرع فيقف على المسألة في موضع بلا قيد فيظنها مطلقة فيقع في إشكال كبير.  
  3. تتبع تعليلات الأحكام الفقهية؛ لأنها معقولة المعنى وليست تعبديةً كما قد يتصور بعض المشايخ من الموقعين على الفتوى فيَجمدون على المنقولات، وقد قال الإمام الكبير القرافي: "الجمود على المنقولات أبدًا: ضلالٌ في الدين، وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين". وهذه التعليلات لا بد أن تتسق مع الأصل التي ينتظم المسألة مع غيرها من المسائل الفرعية، وإلا وقع الاضطراب، ولذلك تحديد الأصل مهم للفهم والاتساق.
  4. التمييز بين الفتوى والقضاء، أو الديانة والقضاء، وهي من مبادئ علم الفقه التي بينها الأئمة؛ باعتبارات متعددة، أولها: أن الفتوى ليست مُلزِمة للمستفتي، بينما حكم القاضي مُلزِم ويجب الامتثال له، وثانيها: أن حكم القاضي يخضع لشقين: الإثبات والتنفيذ، وكلاهما له إجراءات وشروط محددة، أما الفتوى فليس فيها كل ذلك، وثالثها: أن الدياني محصور بين العبد وبين الله من حيث تَرَتب الإثم من عدمه، بينما القضائي مقيد بالبينات والإثباتات، فقد ينتفي الإثم عند الله في حكم وتثبت العقوبة على المكلف في الدنيا أو العكس وذلك لأمر يرجع إلى توفر الأدلة والإثباتات ونظام التقاضي.    

بناء على ما سبق كله، نقول: أجمع الفقهاء على أن إثبات الزنا يحتاج إلى أربعة شهود، وأن الزاني أو الزانية غير المحصنة معصومة الدم، وأن المزني بها المكرهة على الزنا معصومة الدم، وهذا ما خالفت فيه فتوى المجلس السوري إجماع الفقهاء.

تحدث فقهاء الشافعية عن دفع المعتدي على العِرض (يسمونه الصائل) وهي حالة أشدُّ من الزنا بالتراضي، وردوا قول من قال: إنه إذا رآه يزني فله أن يبدأ بالقتل وإن اندفع بدونه، واشترطوا التدرج في دفع المعتدي. قال شيخ المذهب الإمام الرافعي: "يجب على المَصُول عليه رعاية التدريج، والدفع بالأهون فالأهون، فإن أمكنه الدفع بالكلام أو الصياح أو الاستغاثة بالناس: لم يكن له الضرب ... وإذا لم يندفع إلا بالضرب فله الضرب، ويُراعى فيه الترتيب أيضًا؛ فإن أمكن باليد لم يضربه بسوط، وإن أمكن بالسوط لم يَجُز العدول إلى العصا ... ولو اندفع بدرجة نازلة، فدفعه بما فوقها ضَمِن"، وبالغ جدًّا في تصوير التدرج لعدم الزيادة على القدر الأدنى المطلوب لدفع المعتدي. (الرافعي، العزيز، 11: 318-319).

وقال الإمام النووي: "إذا وجد رجلا يزني بامرأته أو غيرها، لزمه منعُه ودفعُه، فإن هلك في الدفع فلا شيء عليه، وإن اندفع بضربٍ أو غيرِه ثم قَتَلَه لَزِمه القصاص إن لم يكن الزاني محصنًا. فإن كان [محصنًا] فلا قصاص على الصحيح. وإن ادعى أنه زنى بها وهو محصنٌ لم يَثبت الزنى إلا بأربعة. فإن لم يكن [ثمة] بينةٌ حَلَف ولي القتيل على نفي العلم بما يقوله، ومُكِّن من القصاص (النووي، روضة الطالبين، 10: 190، والخطيب الشربيني، مغني المحتاج، 5: 531).

وهناك قولٌ آخر في مذهب الشافعية أنه إن قتله وكان يندفع بما هو أخف واتضح أنه محصنٌ فعليه القصاص أيضًا، وقد حكى هذا القول الإمام الرافعي. بل إن الشافعية تحدثوا عن صورة أخرى توضح شدة تحريهم في حرمة الدماء وشدة شروط إثبات الزنا، وهو ما لم تتورع عنه فتوى المجلس السوري، فقالوا: "ولو أقرّ الورثة أن مورّثهم كان معها تحت ثوبٍ يتحرك تَحَرُّك المُجَامع وأنزلَ، ولم يُقروا بما يوجبُ الحدَّ [على المقتول] لم يَسقط القصاص. وإن أقروا بما يُوجبه وقالوا: كان بكراً، فالقول قولهم وعلى القاتل البينة" (الخطيب، الإقناع، 3: 491).

وبعض الشافعية قال: "إذا وجب قتل الزاني المحصن، فقتله رجلٌ بغير أمر الإمام. فقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن القوَد على قاتله واجبٌ؛ لأن وليّ قَتْله هو الإمام، فإذا تولاه غيره أُقِيد منه" (الماوردي، الحاوي، 12: 81).

أما الحنابلة فمذهبهم كالشافعية، قال القاضي أبو يعلى: "ونقل أبو طالب فيمن وجد مع امرأته رجلاً فقتله: يقيم البينة أربعةٌ؛ لأنه قذفها، فإن شهد أربعةٌ رُجمت، وإن شهد اثنان جُلدوا؛ فظاهر هذا أنه لا يُجزىء في ذلك أقلُّ من أربعة يُثبتون الزنا. فإن شهد اثنان لم يَسقط القوَد عنه؛ لأنه مُدّعٍ أنه قتله بسببٍ يستحق القتل - وهو الزنا - فيجب أن يُثبت السبب الذي يَسقط به القوَد عنه، وذلك لا يَثبت بأقل من أربعة" (أبو يعلى، المسائل الفقهية، 2: 347).

ومشكلة فتوى المجلس السوري أنها أبهمت (الشهود) ولم تحدد عددهم، وتجاهلت أنه إن قتل الزوج أو المحرم الزاني فقط فيبقى حدُّ قذف الزوجة أو المَحرم أمام القضاء فإن لم يُثبت واقعة الزنا ثبت في حقه حد القذف للزوجة وحق القصاص للمقتول.

ويوضح الحنابلة أنه إن وجد رجلاً يزني بامرأته فقتلهما وأقام البينة فلا قصاص عليه ولا دية، ولكنهم يستثنون فيقولون: "إلا أن تكون المرأة مُكرهة فعليه القصاص ويأثم؛ لسقوط الحد عليها بالإكراه، فهي معصومة" (البهوتي، كشاف القناع، 6: 156، وابن قدامة، المغني، 9: 184، والحجاوي، الإقناع، 4: 291)، ولكن هل معنى هذا أنه يلجأ إلى القتل فورًا؟ لا، بل لا بد من التدرج الذي تحدث عنه الشافعية أيضًا؛ لأن الحدود عند الحنابلة لا يطبقها إلا القاضي، والتعزير لا يجوز أن يصل إلى القتل، فالحنابلة يشددون جدًّا في التعزير ولا يتوسعون فيه، والأئمة الثلاثة مالك وأحمد والشافعي لا يجيزون القتلَ تعزيرًا. ولذلك حين شرح الشيخ محمد بن المختار الشنقيطي "زاد المستقنع" أحد مصادر الحنابلة قال: "حتى ولو جاء بشهود ووجده يزني بامرأته فما يقتله، وليس من حقه أن يقتله؛ لأن القتل ليس إليه، وإنما هو لولي الأمر. ولذلك إذا قتله في هذه الحالة وأحضر أربعة شهود على أنه كان زانياً أَسقط القاضي عنه حدّ القصاص، وأوجب عليه التعزير؛ لأنه تَعَدى" (الشنقيطي، شرح زاد المستقنع، 5: 233)، أما فتوى المجلس فتركت الباب مواربًا وقالت: "يمكن أن يعاقب أو يعزر"، والتعزير واجبٌ عند الأئمة الثلاثة وليس اختيارًا للقاضي كما توهم الفتوى خطأ.

بقي أن مذهب الحنفية أنهم يجيزون التعزير لغير ولي الأمر، وقد يصل التعزير عندهم للقتل في حالة الدفاع عن العِرض أمام الصائل المعتدي، ولكن مع ذلك فإن هذا مشروط بأنه ليس كل جريمة يصح القتل فيها تعزيرًا، بل لا بد أن يكون جنسُ الفعل مما شُرع فيه القتل أو أنه يَعظُم بالتكرار، وأنه يُشترط أن ينهاه عن المنكر فلا ينزجر، وأن يتدرج في استعمال التعزير أيضًا. قال البغدادي الحنفي: قال بعض أئمتهم: "لو رأى رجلاً يزني بامرأته أو امرأة آخر - وهو محصن - فصاح به فلم يهرب ولم يمتنع عن الزنا حلّ له قتله ولا قصاص عليه" (ابن نجيم، البحر الرائق، 5: 45، وابن عابدين، الحاشية، 4: 63، والبغدادي، مجمع الضمانات، 172) أي حل له دِيانة من حيث إنه لا إثم عليه في الآخرة، ولكنه يلزمه إثبات ذلك قضاءً وإلا عوقب في الدنيا. نعم ثمة اضطراب في بعض نصوص متأخري الحنفية، فبعضها يعطيه الحق مطلقًا وبعضها يقيد ذلك بما إذا لم ينزجر بما هو أخف من القتل، وفي النص السابق اشترط الإحصان في الزاني والتدرج في دفعه. ورغم أن ابن عابدين لا يعتبر التدرج قيدًا، إلا أن الإمام ابن نجيم الحنفي قال: "إن الكلام المطلق يجب حمله على التقييد توفيقًا بين كلامهم، ومن هنا جزم ابن وهبان في نظمه بالشرط المذكور مطلقًا وهو الحق" (ابن نجيم، النهر الفائق، 3: 165-166)، ثم إن بعض أئمة الحنفية اشترطوا في القتل الذي لا قصاص فيه أن يكون الزاني محصنًا، وكل هذا مشروط بإثبات ذلك قضاءً أيضًا. وهذا مثال على ما شرحته من أن فهم كلام الفقهاء مقيد بطريقتهم في التصنيف وبحمل كلامهم في باب على كلامهم في باب آخر مع تصور أصل المسألة التي تندرج تحتها الفرع الذي نتحدث فيه.

ويجب أن يقال: إن الإمام الرافعي الشافعي حكى أن مذهب "أبي حنيفة -رحمه الله- أن القاتل يَلزمه الضمان وإنْ ثَبَت الزنا والإحصان؛ بناءً على أن الزاني المحصن إذا قتله واحد من عَرَض الناس قَبل أن يقضي القاضي عليه بالرجم: يَلزمه القصاص" (الرافعي، العزيز، 11: 319).

ومن العجيب أن فتوى المجلس السوري اجتزأت حديث سعد بن عبادة في إثبات الغيرة، ولو تتبعنا رواياته وكلام العلماء فيه سنجد خلاف ما أوهمته من مدح الغيرة المُفضية إلى القتل ولو بالشهود. جاءت الفتوى بالمقطع الآتي من الحديث: "لو رأيتُ رجلاً مع امرأتي لَضرَبتُه بِالسَّيفِ غيرَ مُصْفَحٍ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتعجبون منْ غَيرةِ سعدٍ؟! لَأنا أَغيَرُ منه، والله أَغيَرُ منّي"، ولكن الفتوى تجاهلت أن حديث سعد بن عبادة له روايات تخالف ما استدلت به، ونوضحها كالآتي:

أولاً: رواية أبي داود وغيره: "فقال ناسٌ لسعد بن عبادة: يا أبا ثابت! قد نزلت الحدود. لو أنك وجدتَ مع امرأتك رجلاً كيف كنتَ صانعًا؟ قال: كنتُ ضاربَهما بالسيف حتى يسكتا، أفأنا أذهب فأجمع أربعة شهداء؟! فإلى ذلك قد قضى الحاجة!. فانطلقوا فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! ألم ترَ إلى أبي ثابت قال كذا وكذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفى بالسيف شاهدًا. ثم قال: لا، لا، أخافُ أن يَتَتَابَع فيها السكران والغيران". ففي هذه الرواية أمران: أن موضوع سؤال النبي صلى الله عليه وسلم - كما أوضح الإمام الماوردي - هو السؤال عن سقوط القوَد، وهو ما لم يُسقطه رسول الله بل إنه لم يُجز استعمال القتل في حالة التلبس (الماوردي، الحاوي، 13: 459) والأمر الثاني: أن الحديث إنما حَظَر القتل في هذه الحالة مخافة الغيران والسكران، فكيف يستدل المجلس السوري بالحديث على أن الغيرة المفضية إلى القتل هنا صفة محمودة؟!.

ثانيًا: أن الغيرة التي تحدث عنها النبي في الحديث هي - كما أوضح الإمام الطبري - بمعنى "اللَّجاج ، وتأوله آخرون أنه بمعنى التسرع" (تهذيب الآثار، 4: 224)، وكلاهما ليس محمودًا في الشريعة، بل في بعض روايات الحديث ما يوضح أن هذه الغيرة مَنقصة "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: أما تَسمعون ما يقول سيدكم؟ فقالوا: اعذره يا رسول الله، فإنه رجل غيور، وما طلّق امراة فتزوجها رجل منّا" أي كانوا يخافون من غيرته فلا يجرؤون على التزوج من زوجته السابقة (الماوردي، الحاوي، 12: 81، الروياني، بحر المذهب، 12: 76).

وفي بعض الألفاظ كما عند الإمام أحمد: "قالوا: يا رسول الله لا تَلُمه؛ فإنه رجل غيور"، وفي روايات الحديث الصحيحة ما يفيد أن غيرة سعد هذه غير محمودة ففي الصحيح: "ما من أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش، وما أحد أحب إليه المدح من الله"، أي أن فعل سعد غير محمود ولذلك شرع الشارع الملاعنة ولم يشرع للزوج أو المحرم القتل في هذه الحالة، فإن وقع القتل كانت غيرةً غير شرعية. ولذلك قال الإمام الخطابي: "يشبه أن تكون مراجعة سعْد للنبي صلَّى الله عليه وسلم طمعاً في الرخصة لا ردّاً لقوله صلَّى الله عليه وسلم، فلما أبى ذلك رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم، وأنكر عليه قولَه، سكت سعد وانقاد" (معالم السنن، 4: 19). وقال الإمام ابن عبد البر: "يريد -والله أعلم- أن الغيرة لا تُبيح للغيور ما حُرم عليه، وأنه يَلزمه مع غيرته الانقياد لحكم الله ورسوله، وأن لا يتعدى حدوده، فالله ورسوله أغير، ولا خلاف - عَلِمتُه - بين العلماء فيمن قتل رجلاً ثم ادعى أنه إنما قتله؛ لأنه وجده مع امرأته بين فخذيها ونحو ذلك من وجوه زناه بها، ولم يُعلم ما ذكره عنه إلا بدعواه، أنه لا يقُبل منه ما ادعاه، وأنه يُقتل به، إلا أن يأتي بأربعة شهداء يشهدون أنهم رأوا وطأه لها وإيلاجه فيها، ويكون مع ذلك محصناً مسلماً بالغاً أو من يحل دمه بذلك، فإن جاء بشهداء يشهدون له بذلك نجا، وإلا قُتل، وهذا أمر واضح، ولو لم يجئ به الخبر لأوجبه النظر؛ لأن الله حرّم دماء المسلمين تحريماً مطلقاً" (التمهيد 21/256)، فهذا الإمام ابن عبد البر لا يعلم خلافًا في هذا، وفتوى المجلس تقول قولاً مبهمًا: (وقيل: لا يقتص، وهذا أمرٌ راجع لنظر القاضي وتقديره)!.

وقال العلامة الطاهر بن عاشور: "(أتعجبون من غيرة سعد لَأَنا أغيرُ منه، والله أغيرُ مني)، يعني أنها غيرة غير معتدلة الآثار؛ لأنه جعل من آثارها أن يقتل من يجده مع امرأته والله ورسوله لم يأذنا بذلك؛ فإن الله ورسوله أغيرُ من سعد ولم يجعلا للزوج الذي يرى زوجته تزني أن يَقتل الزاني ولا المرأة" (التحرير والتنوير، 18: 163). فهذه نصوص أئمة كبار خالفها المجلس السوري انحيازات لأهواء بعض الناس وأضفى عليه صفة شرعية زائفة.

إن فتوى المجلس السوري حين تعتبر (الغيرة على العرض والدفاع عن الشرف) مسألة مشروعة في سياق القتل ولو بالبينة تفتح بابًا للفوضى التي لا يقرها الفقه الإسلامي؛ لأن الشرف كلمة مطاطة لا بد لها من معيار يضبط آثارها، وهذه الأسئلة نطرحها على المجلس السوري للإجابة عليها وهي أسئلة تثيرها فتوى المجلس نفسها:

ما معيار الشرف؟ ومَن المستحق المطالَب بالقتل في حالة ما لو كان الرائي لواقعة الزنا مَحرمًا؟ وماذا لو اختلف أولياء المرأة المزني بها في المطالبة بالشرف فقول مَن يُقدّم؟ وهل من حق المَحرم وحده المطالبة بالشرف أم من حق الآخرين أيضًا باعتبار الزنا منكرًا؟ ولو دخل الزوج أو المحرم عليهما فوجدهما يفعلان كل شيء إلا الزنا وقتلهما بدافع الشرف ما الحكم في هذه الحالة؟ لو اعتدى أحدٌ على امرأة أحد وجردها من ثيابها في الشارع وقام زوجها أو أحد محارمها وقتله دفاعًا عن شرفه، فما حكم هذا القتل؟ عللتْ فتوى المجلس القتلَ بأنه في حالة غضب، فهل هذا "الغضب منفعل" (وصل حد الإغلاق المُطْبِق) وكيف نقيسه؟ أم أن "الغضب المفتعل" أيضًا يبيح القتل، والغضب المفتعل هو الغضب حَمِيَّةً أو غيرةً. هل هذا "الشرف" مسألة خاضعة لأعراف المجتمعات وطبائع الأفراد أم أنها ميزان عام لجميع المكلفين في كل مكان وزمان؟ ومن رأى زوجته أومحرمًا له يُزنى بها ولم يقتل الفاعل أو يقتلهما هل هو عديم الشرف وآثم شرعًا؟ هل الدفاع عن الشرف مسألة خاصة بما يتعلق بالنساء فقط أم أننا يمكن أن نقيس عليها مسائل أخرى كمن غضب من فتوى يعتقدها خاطئة وقام - غيرةً لله - بقتل المفتي؛ لأنه رأى أنه انتهك حدود الله؟. فما حكم الشريعة في هذا خصوصًا أن داعش وغيرها من الجماعات تفعل مثل هذا بتهمة الردة وتبديل شرع الله؟. يمكن للمجلس السوري الموقر أن يوضح للناس الإجابة على هذه التساؤلات حتى يُفهم موقفه بوضوح لا لبس فيه. والله الموفق.