في رؤية حراك السويداء من زاوية قريبة

2023.11.22 | 07:08 دمشق

آخر تحديث: 22.11.2023 | 08:36 دمشق

السويداء
+A
حجم الخط
-A

يرتجي سوريون من حراك مدينة السويداء بوصفه لحظة خارجة عن سياق الوضع الذي انتهت إليه مناطق أخرى، أن يكون قاطرة تشد غيرها ليتحرك على السكة ذاتها، أي المسار السلمي المدني الديمقراطي.

ومما لا شك فيه أن التركيز الكبير الذي يحظى به هذا الوضع المختلف لا يتعلق فقط بالخيار الذي انتهجه الثائرون، ولاسيما تكتيك تدرج الأفعال والخطوات بحسب الوضع المحلي، وردود أفعال القوى الفاعلة مجتمعياً، بالتوازي مع ترصد ظرف النظام داخلياً وتلقي حليفيه الروسي والإيراني للحدث، بالإضافة لما ينتج من مواقف إقليمية ودولية، وبالبناء على كل ما سبق، لخلق أدوات ضبط مناطقية، لا تسمح لأجهزة النظام أن تخلق بؤر توتر تؤدي إلى صدام مسلح، يستطيع من خلاله خلق الوازع الذي يشرّع، ويسمح له بإعادة استخدام الحل الأمني.

بل إن المنبع الرئيس الذي تخرج منه كل دفقات الأمل الكبير بهذا الحراك، هو الشعور الرازح بأن الثورة وبعد 13 سنة على انطلاقها، قد وصلت إلى حالة غير مألوفة، ليس في التاريخ السوري فحسب، بل في تاريخ الثورات والانتفاضات، حيث تبدو معلقة في الفضاء، فهي لم تنتصر، ولم تمت!

وبدلاً من أن يتبدى من خلالها مشهد الصراع، بقي النظام الديكتاتوري أساساً لكل الشرور، ولكنه لم يعد هو فقط كل المشكلة. أي إن الثورة لم تعد في مواجهة مع جهة واحدة، بل مع مجموعة من القوى، التي لا تساهم في تدميرها بوصفها إرادة للشعب فقط، بل تمضي في تدمير كينونته الوطنية، وتؤدي إلى تشظيه وتبعثره، وتحول أفراده وجماعاته إلى أقوام رُحل، هائمين في الداخل والخارج بحثاً عن الخلاص.

تبعاً لهذا، تنعقد الآمال الكبيرة على ما يجري في ساحة الكرامة، لكن هذا الرجاء، يؤدي بالبعض إلى التماس "نهاية سعيدة"، تأتي بسرعة، وتنجز ما لم يستطع الآخرون فعله طيلة السنوات الماضية.

وفي هذا التوجه، يمكن فهم الإلحاح على سؤال "وماذا بعد"! وأيضاً تركيز البعض الآخر على قضية ربط الحرك في السويداء، وبشكل معلن وظاهر، مع القوى السياسية المعارضة في الداخل والخارج.

لكن في الوقت نفسه، لا يجب على المُلحين، تجاهل الجهود الكبيرة التي يبذلها الناشطون من أجل ثبات وحدة قيادة الحراك، وأيضاً المساعي التي تتجرد من أجل رفع مستوى القيادة من إطاره ذاته إلى أطر أعلى، تؤسس لحالة وطنية تجمع كل أفراد المجتمع المحلي، بكل الرايات التي يرفعونها، تحت الشعار الأساسي والذي يقول بضرورة تطبيق القرار الدولي 2254 والذي يقضي بالانتقال السلمي للسلطة.

إيقاع الثورة لا يبدأ وينتهي بالرغبات، بل يتأسس بالسياسة، من أجل النجاح في مواجهة العوائق الداخلية والخارجية، وأيضاً وبالمقاربات الداخلية التي تتضمن في ثناياها دفع الفئات الصامتة إلى إنهاء حالة الاستنكاف التاريخية عن مقاربة السياسة بعد أن جعلها نظام البعث إثماً! وهذا جهد عظيم، يعرف الثائرون ولاسيما أولئك الذين جربوا العمل في مجتمعاتهم المحلية، كمْ تحتاج عملية الإقناع من الوقت والمخاطرة، في بيئات ضيقة حذرة، تخشى دفع الأثمان!

ما يظهر على سطح الحراك وما يشاهده الجميع في البثوث المباشرة من بؤر التظاهر في المدينة، وفي مدن محافظة السويداء، وما تطرب له النفوس من هذا وذاك، ليس كل ما تتضمنه حمولة الاندفاع في ثورة ضد سلطة مستبدة غاشمة، بل هو واجهة لمعنى أعمق، سيؤدي _ورغم ادعاء النظام ظاهرياً، بأن ما يجري لا يعنيه، ولا يؤثر فيه_ إلى بروز معطى محلي يغير في الوضع الساكن للحالة السورية، بعد أن استنقعت، قوامه إمكانية أن يُنتج السوريون أنفسهم، وبغض النظر عن التدخلات الحاصلة في واقعهم، وربما مصيرهم، وفق الأفق المنظور، بديلاً مختلفاً، يعزز أصالة ومشروعية فكرة التغيير الذي هدفت إليه ثورة عام 2011.

اشتغل النظام على شق المجتمع المحلي المحيط بالثائرين، ودفع الفئات المجتمعية نحو تقليب أمورها بهدف السلامة واتقاء العقاب، وجعلِها تكتفي بالمراقبة، لكن النتيجة الحاصلة تُظهر العكس!

فقد أدى الفاعلون واجبهم في مخاطبة الجمهور الصامت، وأقنعوا شرائح متعددة بأن تنضم للاحتجاجات، لا بل إن ظهور مجموعات ترفع رايات نقابية ومهنية في ساحة الكرامة، يعني فيما يعنيه أن الحراك هو من يشق قوى النظام، بعد أن ألحق هذا الأخير ومنذ نهاية سبعينيات القرن الماضي قوى المجتمع المدني النقابية بحزب البعث، وأخضعها لسلطة مكاتب قيادته القطرية.

استمرار الحراك زمنياً يُذكر المطلعين على التاريخ بلحظة مشابهة رغم اختلاف المعطيات والظروف، وهي الإضراب الستيني الذي ساهم بشكل رئيس في إنجاز الاستقلال عن فرنسا الدولة المنتدبة وتوقيع معاهدة عام 1936. ورغم بساطة سردية التحرر من الاستعمار في جملها الأولية، إلا أن تفكيك معطياتها، مازال حتى الآن يشغل المؤرخين، ولاسيما قراءة الدوافع، ودراسة الأدوار، والنظر إلى ما يمكن للأخطاء والارتجالات أن تفعله، في تأخير أو تسريع لحظة الحقيقة الثابتة، وهي بالتأكيد تحرر السوريين من الاستبداد، بعد أن أهدر من حيوات أجيالهم عشرات السنين.