هل يمكن لطفل عمره ست سنوات أن يُهزم؟
بعبارة أخرى: هل يفهم هذا الطفل بسنواته الست معنى الهزيمة، ويتذوقها، ويشعر بوطأتها؟
في مثل هذه الأيام من شهر حزيران 1967م، نزحتُ كعشرات الآلاف من السوريين من عاصمة الجولان السوري "مدينة القنيطرة"، لم أكن يومها قد أكملت عامي السادس، لكنني شعرت يومها أنني مهزوم، سيختلف معنى الهزيمة بالنسبة لي عن الآخرين، فلم أكن يومها أفهم معنى بقاء النظام أو رحيله، لأقلّب الفكرة في رأسي وأستبدل الهزيمة بانتصار، طالما أن النظام باقٍ، ولم أكن أيضاً أفهم حركة التاريخ، وسفسطة المثقفين الناطقين باسمها، لأسميها نكسة بدل هزيمة، وأن ما حدث ما هو إلا جولة من معركة طويلة، كنت مجرد طفلٍ، مهزوما خائفا يهرب مذعوراً، تاركاً وراءه أماكن طفولته التي ألفها وأحبها، يفقدها مرة واحدة وإلى الأبد.
على مقاعد المدرسة، في كتب الدراسة، في تحية العلم، وخطب المدرسين، وفي.. وفي.. لا شيء إلا المعركة
منذ ذلك اليوم حاصرتني معركة مستمرة دون توقف، لم أستطع أن أراها، لكنني أسمعهم كلهم يتحدثون عنها، وتسكن كل تفاصيل حياتي، فإن قلت لأبي أنني جائع، صرخ بي أن أصمت فالمعركة الآن هي الأهم، وإن قلت لأمي أن ثيابي اهترأت وصرت أخجل من رقعها الكثيرة، وجسدي الهزيل الذي يظهر من ثقوبها، طلبت مني أن أصبر فالمعركة هي السبب، وإن سألت عما حدث لجارنا الشاب الذي اختفى وعاد مشوهاً، أسكتوني ثم همسوا لي إنها المعركة.
على مقاعد المدرسة، في كتب الدراسة، في تحية العلم، وخطب المدرسين، وفي.. وفي.. لا شيء إلا المعركة.
أية معركة هذه التي أصبحت قدرنا الغامض؟ وسرقت أعمارنا، وأطلقت أسماء من ابتلعتهم على مدارسنا، وشوارعنا، ومشافينا وساحاتنا، وأصبحت ظلنا الذي لا يفارقنا حتى في عتمة ليالينا الطويلة، وصنفتنا أبطالاً وخونة خانعين وثائرين آلهة وشياطين، ثم ألغت كل ما في حياتنا من معايير لتصبح معيارنا الوحيد الذي نقيس عليه حتى أنفاسنا.
عندما أغادر طفولتي ويفاعتي لألج عالم الكبار وأوهامهم، سأقول متفاصحاً وواثقاً مثل فيلسوف قابض على الحقيقة، عن معركة حزيران أنها هزيمة وليست نكسة، لكنني سأردّد وبكل الثقة إياها، أنها ليست سوى جولة في معركة وأن الشعوب ستنتصر لا محالة وأن هذا ما تثبته حركة التاريخ.. وحتميته، وكل هذا الهراء.
اليوم أنا مقتنع أنها معركة لم تتوقف منذ هزيمة حزيران المشؤومة تلك، لكنها فقط غيرت جبهاتها وأهدافها، فلم تعد حربا بين الاحتلال الإسرائيلي والأنظمة العربية، بل أصبحت بين هذه الأنظمة وشعوبها، وأن الأنظمة التي اعتبرت نفسها منتصرة حين بقيت في سلطتها أوقفت صراعها مع إسرائيل، واستبدلت به صراعاً آخر، صراع لا يفضي إلا إلى الهزائم، صراع يرتكز على ركيزتين أساسيتين هما صناعة الخوف وتعميمه، وإضعاف المجتمع وتقسيمه، لنصل أخيراً إلى أن نصبح رعايا في مملكة الحاكم.
بالتأكيد كانت حرب حزيران هزيمة ساحقة للنظام العربي الرسمي، وربما يمكن القول إن الشعوب العربية المحاصرة بالتهميش والفقر، والإحباط والأحكام العرفية، لم تخض معركتها في حزيران لنقول إنها هُزمت، لكنها في المآل الأخير هُزمت، فقد أسست تلك المعركة لهزيمة الإرادة الوطنية الجماعية، وأسست للسلطة المستبدة المفردة، وأسست لهزيمة العقلانية الديمقراطية، والتي ترى في المواطن والمواطنة طريق الانتصار الوحيد.
بعد حزيران الهزيمة، تعمّدت الأنظمة العربية تدمير مجتمعاتها، وألحقت بها دماراً هائلاً، ولم تتوقف عند إغلاق نوافذ هذه المجتمعات عن معطيات الحداثة والتطور، بل عمدت إلى تغييب العقل النقدي المنتج، وأحلّت محلّه العقل القاصر المشلول، وجعلته سيداً وحاكما ومقرراً.
قد تكون مقولة إن الانتصار الكبير يربك صاحبه صحيحة، لكن بشرط أن يتسبب هذا الانتصار بوضع الطرف المهزوم على بداية طريق جديد، فيبحث في أسباب هزيمته، ويعمل على خلق أسباب انتصاره، لكن ورغم أن هزيمة حزيران تسببت بصدمة قوية للوعي العربي، فإنها لم تدفعه إلى طريق عقلاني يؤسس لنهوض حقيقي، لا بل – وهنا الفاجعة - إنها أغرقته أكثر في دوامة العجز والاستنقاع.
اليوم وبعد انفجار الثورات في العديد من دول العالم العربي، هل يمكن القول إن الرد على هزيمة حزيران وما رسخته من تغييب للشعوب قد بدأ؟ وأن ما يزيد على نصف قرن من العمل الحثيث والممنهج لإخراج هذه الشعوب من التاريخ لم تعط النتائج التي ظن البعض أنها ترسخت، وأن هذا البعض كان واهماً عندما ظنَّ أن عودة هذه الشعوب إلى التاريخ تقارب المستحيل.
خرج الفلسطينيون في كل مناطق فلسطين المحتلة، ليعلنوا بوضوح أن الشعوب لا تُهزم عندما تمتلك قرارها
لكنني مرة أخرى أتوقف حائراً، ويسحبني خوفي من أنني لم أزل غارقاً في لعبة الوهم، وأن هذه الشعوب قد تجاوزت عتبة العودة، وأن ما تمخّضت عنه هذه الثورات لم يكن إلا إعلاناً صريحاً عن خروج مجتمعاتنا بكاملها من التاريخ، وأن المقولات التي دفعت أجيال عربية عمرها وهي تكررها، لم تعد إلا تعبيراً عن هزيمة ستتوالى فصولها هزيمة بعد أخرى.
بالأمس خرج الفلسطينيون في كل مناطق فلسطين المحتلة، ليعلنوا بوضوح أن الشعوب لا تُهزم عندما تمتلك قرارها، وبالأمس أيضاً قالت الجموع التي رقصت فوق أشلاء وطنها في سوريا في مهرجان تتويج قاتلها إن العطب قد يصبح قدرا لا فكاك منه، وما بين مشهدين متناقضين أقف حائراً بين يأسٍ عميم، وبين أملِ لا يزال برعماً صغيراً، يحاول أن يشق تربة شديدة اليباس.
لا أستطيع أن أتحمل وزر إشاعة هذا اليأس، ولا أستطيع أيضاً أن أذهب بأوهامي بعيداً، وما بين عجزين، أحاول أن أستعيد بعض العقلانية، في عالم كل ما فيه يدفعك إلى الجنون، لكنني ولأننا "محكومون بالأمل"، سأظل أنتظر هذا البرعم الذي يحاول النهوض.