جامعة دمشق، كبرى الجامعات السورية وأعرقها، ومن بين أقدم جامعات الشرق الأوسط والعالم. درّست وخرّجت كبار الشخصيات والعلماء السوريين والعرب الذين مثّلوا ويمثّلون اليوم خيرة الكوادر التدريسية في جامعات الشرق والغرب، وأثّروا في تطوّرها وتقدّمها.
100 عام تمرّ اليوم على تأسيس "الجامعة السورية" (جامعة دمشق). إلا أن صدور قرار التأسيس ورقياً ومذيلاً بتوقيع "المفوّض السامي" الفرنسي حينذاك، لا يعني أن الكلّيات والمعاهد قد تأسست في ذلك التاريخ (28 حزيران 1923) وإنما كانت أقدم بنحو 20 عاماً من خلال معهد الطبّ بدمشق، ولاحقاً مدرسة الحقوق والمجمع العلمي العربي، وغيرها.
أُسّست كلية الطبّ (المعهد الطبي) في عام 1903. قبل ذلك بنحو عامين، وتحديداً في الـ27 من أيلول 1901، أصدر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني قراراً أنشأ بموجبه معهداً للطب في دمشق، ليُقدم ذلك المعهد إلى طلابه من مختلف رعايا الدولة العثمانية شهادتين مجانيّتين في علوم الطبّ والصيدلة؛ 3 سنوات لدراسة الصيدلة و6 لدراسة الطبّ.
وكان للطلاب الوافدين إلى دمشق حق الإقامة في نفس المعهد لقاء مبلغ رمزي لا يتجاوز 6 ليرات عثمانية سنوياً. وبالإضافة إلى اللغتين العربية والتركية، توجّب على الطلاب إتقان اللغة الفرنسية أيضاً بوصفها اللغة الوحيدة التي كان يُدرّس بها الطبّ في ذلك الوقت.
نبعت تلك الخطوة من شعور الدولة العثمانية الماسة إلى إنشاء مدرسة طبية جديدة، في الوقت الذي كان تعلّم الطبّ في كافة الأراضي العثمانية مقتصراً على ثلاث كليات فقط، هي: كلية الطب في إسطنبول، وكليتا الطب في الجامعة اليسوعية في بيروت، والكلية السورية البروتستانتية، التي صارت تُعرف بعد عام 1920 باسم "الجامعة الأميركية" في بيروت أيضاً. والجامعتان المذكورتان كانتا قد بدأتا عملهما منذ منتصف القرن الـ19 بصفة تبشيرية.
من المعهد إلى الجامعة
-
معهد الطب.. التأسيس والاندماج:
قضى فرمان السلطان عبد الحميد بأن يكون مقر المعهد الطبي المستحدث في القسم الجنوبي من "المستشفى الحميدي" الواقع في حيّ "البرامكة"، بالقرب من نهر بردى والتكية السليمانية وساحة "المرجة" في قلب دمشق، حيث كان مقرّ دار الحكومة المعروفة بـ "السراي الكبير".
وكان المستشفى الحميدي الذي بني بين عامي 1869- 1899، يعدّ من أهم مستشفيات الدولة العثمانية. وبعد بضع سنوات صار يسمى مستشفى "الغرباء" ومن ثم المستشفى "الوطني"، حيث أصبح المستشفى المعتمد لتدريب طلاب الطب في الجامعة السورية (جامعة دمشق). وأمر السلطان أن تفتح أبواب المعهد الجديد في الأول من أيلول عام 1903، بالتزامن مع الذكرى الـ27 لجلوسه على العرش.
ولأن المقرّ المحدد في الفرمان لم يكن جاهزاً لاستقبال الطلاب، وبسبب إصرار السلطان على الافتتاح وانطلاق العمل في التاريخ المذكور، أقدم فيض الله باشا على استئجار مقر مؤقت للمعهد في حيّ الصالحية السكني، ضمن أحد القصور التابعة لعائلة العظم العريقة، حيث بقي هذا المقر (المؤقت) مقراً للجامعة السورية حتى انتهاء العمل بمبنى حي البرامكة الرئيسي عام 1913.
كان لافتتاح المعهد أهمية كبرى في دمشق وعبر أرجاء الدولة، وترافق مع إجراءات أمنية مشددة حيث حضره كل من الوالي ناظم باشا ومدير المعهد فيض الله باشا وحقي باشا قائد الجيش العثماني الخامس بدمشق، إضافة إلى الطبيبين الجرّاحين عثمان باشا وحكمت باشا، وكلاهما كان يعمل في المستشفى الحميدي. كما افتتحت أبواب المعهد في ذلك اليوم أمام 40 طالباً، بدؤوا يتلقّون دروسهم في الـ22 من شهر أيلول.
واستمر معهد دمشق الطبي بتقديم علومه للطلاب والعمل بانتظام لمدة 5 سنوات من دون توقف. وخلال ذلك، نال المعهد سمعة طيبة داخل الأراضي السورية وخارجها. وحين وصلت الكهرباء إلى مدينة دمشق في شباط 1907، كان المعهد الطبي ثالث مبنى يصل إليه التيار الكهربائي بعد الجامع الأموي والسراي الكبير.
-
المعهد وانقلاب "الاتحاد والترقي":
أثّر انقلاب جمعية "الاتحاد والترقي" في إسطنبول (آب 1908) على معهد الطب الدمشقي، وكان الطاقم التدريسي أول ضحايا ذلك الانقلاب. فنظراً إلى خبراتهم العالية وحاجة الحكومة التركية الجديدة إليهم، نقلت جمعية الاتحاد والترقي ذلك الطاقم إلى إسطنبول، وفصلت من ثبت منهم وَلاؤه للسلطان عبد الحميد.
وبسبب خلو المباني والمختبرات من أي سلطة رقابية في ذلك الصيف، سُرق عدد كبير من مقاعد المعهد ومفروشاته، وواجه الاتحاديون خياراً صعباً، إما إغلاق المعهد أو إعادة تبنيه، فجاء قرارهم بمتابعة عمله، لأن إغلاقه سيُضرّ بسمعتهم وبمصالحهم في البلدان العربية.
عاد المعهد للعمل مجدداً وعلى نفس الوتيرة السابقة. وبالرغم من اندلاع نيران الحرب العالمية الأولى عام 1914، بقي المعهد محافظاً على مستواه العلمي في السنوات اللاحقة، حيث أجبر على الإغلاق لفترة قصيرة لكنه سرعان ما أُعيد فتحه بأمر من "جمال باشا" قائد الجيش الرابع وأحد أبرز ضباط جمعية الاتحاد والترقي. وعند انسحاب الجيش العثماني عن دمشق في أيلول 1918، أغلق المعهد مجدداً. وكان قد خرّج منذ إطلاقه عام 1903، ما مجموعه 211 طبيباً و247 صيدلياً.
-
الحقوق:
افتتحت مدرسة الحقوق أول الأمر في بيروت في مطلع تشرين الثاني عام 1913، وبُدئت الدراسة فيها بعد شهر من نفس العام، واشتمل برنامجها على المواد الأساسية في الدراسات الحقوقية وأصول الفقه، وأحكام الأوقاف والوصايا والفرائض والزواج التي تمت دراستها باللغة العربية، على حين كانت المواد الأخرى الثانوية تلقى باللغة التركية وألحقت بها مكتبة كبيرة ساهم الأساتذة والطلاب في تزويدها بالكتب القيمة.
وعقب نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914 نقلت المدرسة إلى دمشق وشغلت بناء المدرسة الإنكليزية - الايرلندية التي كان مقرها في ساحة "الدوامنة" بباب توما حتى عام 1918 حيث أعيدت المدرسة مجدداً إلى بيروت. وعقب انتهاء الحرب ودخول الفرنسيين بيروت تفرق أساتذة المدرسة وطلابها فاستولت عليها جمعية الآباء اليسوعيين بمساعدة السلطات الفرنسية.
-
الطريق إلى إعلان "الجامعة السورية":
بعد وقوع سوريا تحت حكم الملك فيصل بن الحسين عقب انسحاب العثمانيين وانتهاء الحرب العالمية الأولى (1918)، عُين علي رضا الركابي حاكماً عسكرياً، وكان من أول زوار الركابي وفد من طلاب معهدي الطب والحقوق، طالبوه بإعادة فتح مدارسهم لكي يتابعوا دراستهم الجامعية، وكان ثمانية منهم على أبواب التخرج عند سقوط دمشق بيد الحلفاء والجيوش العربية.
وبناء على ذلك الاجتماع، أمر الملك فيصل بإعادة فتح معهد الطب في الـ23 من كانون الثاني 1919، والحقوق في 25 أيلول 1919، أي بعد سنة كاملة من خسارة الدولة العثمانية الحرب وانسحابها من سوريا.
اختار معهد الحقوق مقراً له البناء الذي تشغله حالياً "وزارة السياحة" في حكومة النظام السوري على ضفة بردى، وكان مخصصاً لـ "المدرسة الرشدية". شغل المعهد قسماً من ذلك المبنى، وصار يفده الطلاب من مختلف الدول العربية، خاصة وأنه كان يعتمد اللغة العربية في تدريس منهاجه.
بعد الاحتلال الفرنسي للبلاد عام 1920، طرحت قضية المعهد على بساط البحث فقررت حكومة الانتداب بناءه وعينت عبد القادر العظم مديراً له فتمكن بمساعدة نصوح المؤيد الذي عين أميناً عاماً للمعهد أن يعيد جهازه التدريسي.
ومنذ عام 1921، بدأت مرحلة التوحيد بين نظم معهدي الطب والحقوق، وذلك أنه كان لكل من معهد الحقوق ومعهد الطب نظام خاص متصل بالأنظمة التركية ومقتبس منها. وفي عام 1923 تم ربط معهد الحقوق بمعهد الطب و"المجمع العلمي العربي" و"متحف دمشق" ضمن مؤسسة واحدة مستقلة أطلق عليها "الجامعة السورية" بأمر من الرئيس وقتذاك صبحي بركات، لتكون بذلك ثالث أقدم جامعة في العالم العربي بعد القاهرة والجزائر.
"جامعة دمشق" وتحولاتها
- في عام 1926 تم فصل دار الآثار (متحف دمشق) والمجمع العلمي العربي عن الجامعة.
- في عام 1928 فقدت الجامعة استقلاليتها وأصبحت تابعة مباشرة لـ "وزارة التربية والتعليم"، ثم أنشئت مدرسة "الدروس الأدبية العليا" وربطت إدارتها بالجامعة، فأصبح اسمها عام 1929 "مدرسة الآداب العليا" التي أُغلقت عام 1935/ 1936.
- بدءاً من عام 1946 لم تبقَ الجامعة مقتصرة على معهدي الطب والحقوق بل أُحدثت فيها كليات ومعاهد عليا في اختصاصات أخرى وأصبحت تضمّ حتى العام 1958 (الوحدة بين مصر وسوريا) كالآتي: معهد الطب، معهد الحقوق، كلية العلوم، كلية الآداب، المعهد العالي للمعلمين، كلية الهندسة بمدينة حلب، كلية الشريعة، معهد العلوم التجارية.
وخلال ذلك العام أيضاً، صدر قانون جديد لتنظيم الجامعات في إقليمي الجمهورية العربية المتحدة الشمالي (سوريا) والجنوبي (مصر) عدل بموجبه اسم "الجامعة السورية" ليصبح "جامعة دمشق" وأحدثت في الإقليم الشمالي جامعة ثانية باسم "جامعة حلب" وبصدور اللائحة التنفيذية لهذا القانون في عام 1959 أصبحت جامعة دمشق تتألف من الكليات الآتية: كلية الآداب، كلية الحقوق، كلية التجارة، كلية العلوم، كلية الطب، كلية طب الأسنان، كلية الهندسة، كلية التربية، كلية الشريعة وبات من حقها أن تمنح شهادات في الدراسات العليا.
نُقلت الجامعة بعد ذلك إلى ملاك "وزارة التعليم العالي" التي تأسست عقب انقلاب حافظ الأسد في مطلع سبعينيات القرن الماضي. ومنذ ذلك الحين أصبحت الجامعة تحت إدارة حكومة النظام، ويتم تعيين رؤسائها من قبل رئيس النظام، وتحتل مراتب متأخرة في تصنيف جامعات العالم وفق موقع "ويبوماتريكس".