لا أحاول هنا أن أناقش وقائع التمرد، الذي قامت به مجموعة "فاغنر" بقيادة "يفغيني بريغوجين"، أو نتائجه المباشرة أو غير المباشرة على مجريات الحرب الروسية الأوكرانية وغيرها، ما أريد الحديث عنه هو دلالات هذا التمرد في بنية الدولة الروسية، وفي طبيعة السلطة الروسية التي يديرها "بوتين".
منذ ما يقرب من عشرين عاماً، بدأت تتردد على مسامعنا أسماء لشركات أمنية تقوم بمهام خاصة في منطقتنا، بدأ الأمر بشركة "بلاك ووتر" الأميركية، ثم "فاغنر" الروسية، وهناك شركة إماراتية وغيرها، وهذه الشركات يديرها إما رجال عصابات، أو عسكريون سابقون، ذوو خبرة عسكرية، أو رجال أعمال، وهذا مجال عمل يدر أرباحا كبيرة، وأهم ما يميز هذه الشركات، أن أفرادها مرتزقة، متعددو الجنسيات، يمارسون القتال، ويَقتلون، ويُقتلون من أجل المال فقط.
قدّرت وزارة الخارجية الفرنسية قيمة عائدات شركات الأمن الخاصة بنحو 400 مليار دولار، وبحسب دراسة للباحث الأردني "وليد عبد الحي"، ذكر فيها أن مجموع أرباح هذه الشركات في الوطن العربي هو 45 مليار دولار ما بين 2011 و2014م، أي إن جزءاً كبيراً من اقتصادات الدول العربية تستغل لصالح شركات أمنية، لمرتزقة يعملون لصالح أطراف داخلية أو خارجية.
غالباً ما تتبع هذه المجموعات لسلطة دولة ما، أو تعمل بالتواطؤ معها، وتلجأ بعض الدول عادة لهذه الصيغة من التشكيلات العسكرية لإخفاء علاقتها بهذه المجموعات، كي لاتكون مسؤولة عن أفعالها قانونياً، وفي أسباب اعتماد حكومات أو دول على هذه المجموعات، يُمكن ذكر عدة أسباب فهي – أي الحكومات - تخفف من الخسائر البشرية في صفوف قواتها النظامية، والتي قد تتسبب في حال ارتفاعها بنتائج سياسية، وخلق رأي عام مناهض لها، وربما توصل إلى محاكمات وهزائم سياسية، أما من يقتلون من هذه المجموعات فليس لعددهم أي أهمية، ولا يختلف ذكر عدد القتلى منها عن ذكر عدد الآليات التي دمرت في هذه المعارك، كما أن هناك جرائم حرب ترتكب في أثناء المعارك، وتخضع الجيوش النظامية للمحاسبة في حال ارتكابها، بينما يمكن لهذه المجموعات أن تقوم بجرائم حرب، وأعمال قذرة، دون قدرة حقيقية على محاسبتها.
تختلف "فاغنر" عن مثيلاتها من هذه الشركات بعدة أمور، فهي تأسّست منذ البداية برعاية الدولة الروسية، وهي عمليا جزء من وزارة الدفاع الروسية
تختلف "فاغنر" عن مثيلاتها من هذه الشركات بعدة أمور، فهي تأسّست منذ البداية برعاية الدولة الروسية، وهي عمليا جزء من وزارة الدفاع الروسية، لكن من يحدد عملياتها ومناطق وجودها هو "بوتين"، ولأن بوتين يدير دولة بوليسية أيديولوجية تغيب عنها مؤسسات الدولة الحقيقية فإنه من الصعب إخضاع "فاغنر" للمعايير المتعارف عليها في حالة هذه المجموعات، فهي رغم تبعيتها للدولة إلا أنها فوق القانون، ومرجعيتها فقط هم مؤسسوها أو "بوتين" بشكل أدق، وهذا ما يُفسر سهولة اتهام قائدها لوزير الدفاع الروسي ورئيس الأركان بالخيانة الوطنية، ومطالبته "بوتين" بتغييرهما ومحاكمتهما، وعندما لم يصل إلى ما يريد قرّر التمرد، والتوجه بقواته إلى العاصمة الروسية لإعدامهما.
توجد"فاغنر" في مناطق كثيرة من العالم وإن كان حضورها الأقوى في الحرب الأوكرانية، لكنها توجد في ليبيا، وسوريا وعدة دول إفريقية، وفي أمريكا اللاتينية، وكل أعمالها حول العالم لا يتم التنسيق فيه مع "الدولة" الروسية، بل يتم فقط مع بوتين، باختصار هي ميليشيا مدرّبة، ومسلحة جيداً، وتتبع لشخص هو الآخر يرى "الدولة" كلها كما يرى "فاغنر"، وبغض النظر عن الجدل الدائر حول الديمقراطية وأهميتها، وعن تنظيرات "ألكسندر دوغين" التي يتبناها بوتين، والتي ترى أن بعض المجتمعات – كالمجتمع الروسي – لا يمكن لها النهوض إلا في ظل حاكم فرد ديكتاتور قيصر، وأن "الديمقراطية" الحقيقية على الطريقة الغربية تعني نهاية روسيا، فإن الدرس الذي قدمته "فاغنر" قبل عدة أيام، بليغ جداً لجهة عقم الدولة، وفشلها الحتمي، إذا تم اختصارها بفرد.
كان اتهام فاغنر وقائدها بالخيانة الوطنية من قبل "بوتين" أولا، ثم الإيعاز لجهات قانونية وبرلمانية بتوجيه هذه التهمة، هو مؤشر بالغ الدلالة على مدى هشاشة الدولة الروسية، وارتهانها لسلطة الفرد المطلقة، وفي بيانات لجهات رسمية روسية، كان الأمر أشد صفاقة إذ تضمنت هذه البيانات دعوة "فاغنر" للعودة سريعا إلى "بيت الطاعة" والولاء ل"بوتين"، وليست لمرجعية الدولة أو الوطن، والمضحك أنه بعد ساعات فقط قرر بوتين أن يُسقط تهمة الخيانة عن المجموعة وقائدها. بالمقابل اتهم قائد فاغنر عدة شخصيات من الصف الأول في المؤسسة العسكرية الروسية بالخيانة، أي دولة إذاً هي روسيا عندما يتبادل من يقرّرون مصيرها تهم الخيانة فيما بينهم؟ !
هل يُمكن لنا أن نتخيل ماذا سيحدث في روسيا لو أن "بوتين" تم تغييبه خلال تمرد "فاغنر"، وهل يُمكن تخيل نتائج وانعكاسات نشوب حرب أهلية على المجتمع الروسي وعلى بنية دولة يغلب على سلطتها الطابع المافياوي، وتغيب عنها المؤسسات الحقيقية؟
باختصار ما قام به "يفغيني بريغوجين" قائد "فاغنر"، كان رسالة شديدة الأهمية للشعب الروسي، ولكل شعوب العالم، وهي أن الدولة ومؤسساتها الحقيقية ذات السلطات المنفصلة، هي ضرورة حتمية، ولا بديل عنها في حياتنا المعاصرة، وأن روسيا لم تتمكن حتى اليوم من أن تصبح دولة طبيعية، أي دولة مؤسسات، وبالتالي فإن القوة العسكرية أو الاقتصادية ليست ضمانة لأي مجتمع، وأن الضمانة الحقيقية هي الدولة الحديثة بكل مرتكزاتها.
يُخبرنا التاريخ كثيراً عما يوصلنا إليه استقواء حاكم ما بقوة يرعاها، ويصنعها، من مرتزقة أو من عناصر يستقدمها من خارج الشعب، ويضعها ضد الشعب وخارج المساءلة والقانون، فتتغول هذه القوة، وغالباً ما تأكل الحاكم الذي أوجدها أولاً، ثم تفتك بالمجتمع، وهذا مايقودنا إلى المثال الحاضر والأكثر التصاقاً بنا نحن السوريين، فالميليشيات والقوى الأجنبية التي استقدمها بشار الأسد لحماية كرسيه، أصبحت أقوى منه، وأقوى من الدولة والمجتمع، وهي الآن تتحكم به وبالدولة وباقتصاد سوريا، وهي التي تقرر مصير سوريا، وسوف تكون عقبة كبرى أمام السوريين غداً، عندما يستعيدون وطنهم وقرارهم.