أقيم في مدينة "SANDVIKEN" السويدية الأسبوع الفائت معرضاً للفنان التشكيلي السوري "خليل عبد القادر"، ثم سينتقل بعد ذلك إلى مدينة يوتيبوري "GÖTEBORG" في الرابع من شهر حزيران المقبل، وبعدها إلى مدينة مالمو "MALMÖ".
في هذا المعرض كانت المرأة هي الحاضر الأكبر في لوحات عبد القادر، ويمكننا بسهولة بالغة أن نقول إنه معرض المرأة بكل تفاصيلها، معرض لجسدها ولتحولاته وتجلياته، معرض لاكتشاف حضورها فينا، وما يطلقه هذا الحضور من دهشة داخل نفوسنا، وربما دعوة للغوص في علاقتنا بالمرأة، والحريةـ والحياة، والحب والجنس، ولأن الفن هو مغامرة الحرية كما يصفه "عبد القادر"، فإن المرأة التي يرسمها تتسع دلالاتها لتنفتح على أسئلة الوجود والحرية، والحنين، وغير ذلك كثير.
في معظم لوحاته يبعثر "عبد القادر" ألوانه فوق مساحتها بنزق واضح، لا يهتم بمعاييرنا التي نحملها عند محاولتنا فهم لوحاته، ولا يهتم بأنماط المدارس الفنية التي عرفناها، ولا كيف سيدرسها النقاد أو الباحثون، ببساطة شديدة يفلت روحه لتصهل ما تشاء، وكيفما تشاء في أرجاء اللوحة البكر البيضاء، التي تصبح كل عالمه، وبعد أن تطلق هذه الروح كل انفعالاتها وجنونها، تهدأ، لتعطي للوحة ذاتها أن تقرر مصيرها في تفاصيلها النهائية.
في ألوان عبد القادر القاسية حيناً، والمسترخية كغواية حيناً آخر، ثمة حضور للون التراب، حضور لا يكاد يغيب حتى يطل مرة أخرى، ليس التراب المجرد، إنه تراب القرية التي ولد فيها عبد القادر "حسي أوسو" وتراب الحسكة، في تداخل البني والأصفر وتدرجاتهما، ويمكنك أن ترى روح التراب في ألوانه، وهو يتدرج ما بين ترابٍ قاسٍ شققه العطش، وترابٍ شرب حد الارتواء.
نادراً ما يحضر التراب في مساحات منفصلة في لوحات عبد القادر، إنه يتجرأ في أحيان كثيرة فيجتاح أجساد نسائه، ووجوههنَ، يجتاح لون السماء، وفضاء الرغبات، ويجتاح المعنى والرمز ليصبح أنين الروح وحنينها الذي لا يهدأ، وثمة حنين آخر أيضاً، تضج به ألوان عبد القادر، حنين فضّاح لفساتين القرويات الكرديات الذاهبات حتى آخر الروح.
أجساد النساء في لوحات عبد القادر مشلوحة بعشوائية فوق مساحة اللوحة، لا يهتم بتناسق أبعادها، ولا بتشكيل تفاصيلها، لكنها في تبعثرها وفي عشوائية تشكيلها، وفي عريها أو عدمه، وفي ضجيج ألوانها، في كل ذلك تقول ما لا يستطيع التناسق أن يقوله، وما يستوقفك أيضاً أن فوضى تفاصيل هذا الجسد، وفوضى حالات تموضعه داخل مساحات اللوحة، وفوضى الروح المنفلتة من أي معيار أو قيد، أن شيئاً ما يحدث، فتتوقف الروح فجأة عندما تصل إلى وجوه وأعين نساء اللوحة، وكما لو أنها دخلت فضاء القداسة، والتزمت بما يفرضه المقدس من أدب الحضور، فترتدي وجهاً آخر، فتهدأ، وترقّ، وتشفّ.
وأنت تتمعن في عيون نساء "خليل عبد القادر"، ستشعر كما لو أنك متهم، لا يمكنك أن تعرف بماذا تتهمك هذه العيون الحزينة، والعاشقة، والحائرة، والضارعة، والضائعة والطاغية... لكنك ستشعر برغبة في أن تغوص بها عميقاً، في أن تحتمي بها، أو تفرّ منها، عيون ستفرض عليك أن تبحث في روحك عن وصف ما، تجلٍّ ما، لتعيد تشكيل علاقتك بكل اللوحة من جديد.
ليس هذا فحسب بل ربما تشعرك نساؤه بعد رؤيتك لعدة لوحات، كما لو أنهن َ أصبحن صديقات، وأنك تعرفهن منذ زمن طويل، وعليه فإنه يتوجب عليك في حضرة هذه الألفة والمعرفة أن تكون مؤدباً.
في كل وجوه نساء "عبد القادر"، لم أعثر على وجه يشي ولو قليلاً بالبيئة التي يعيش فيها منذ ثلاثين عاماً، لم أر أي تفصيل يحيلني إلى امرأة ألمانية مثلاً، كانت النساء اللاتي عاش بينهنَ قبل خروجه من سوريا، هنَ الوحيدات الحاضرات في لوحاته، في كل تفاصيل أجسادهنَ، وحركات أيديهنَ، وفي عمق عيونهنَ، وفي بحث هذه العيون عن اللهفة، والحرية والغواية المستترة.
عندما خرجت من المعرض مسكوناً بعيون نساء خليل عبد القادر، وبرغبتي في العودة مرة أخرى في زيارة متأنيّة وطويلة، كانت أسئلة عديدة تتقافز في رأسي، لكن أهمها كان: هل كان ضرورياً أن يرسم عبد القادر مئات اللوحات لتقول روحه ما قالته عن المرأة، ألم يكن بإمكانها أن تقوله بلوحات أقل بكثير؟، قادني هذا إلى سؤال آخر وهو: هل كرر عبد القادر نفسه مراراً في اللوحات التي رأيتها؟
لم أسأله، تركت سؤالي معلقاً فوق دهشتي بما رأيت، وقررت أن أنتظر معرضاً قادماً، حينذاك قد لا أحتاج السؤال، لأن الجواب سوف أكتشفه بنفسي، ولن يهمني جوابه حينذاك.
سأقول لمن أعرفه ويريد زيارة معرض عبد القادر: عندما تذهب للقاء نساء عبد القادر اذهب حافياً، عارياً، وشفافا وراهباً، حتى لو كنت "زنديقاً" وشهوانياً اذهب، ففي تكوين أجسادهن ثمة قداسة تشعها عيونهن فترغمك على أن تصبح ما يردن لا ما تريد، وحدها لوحات النساء العاريات اللاتي أغمضنَ عيونهنَ، يتركن لك مساحة ضيقة لكي تتلصص شهوةً أو كعاشق، لكن العيون المفتوحة لن تسمح لك أن تذهب حيثما تريد، ولن تكون قادراً على أن تشتهي، أو تغضب أو تسخر، ستقودك تلك الأعين كما لو كنت طفلاً مسكوناً بالدهشة والصمت.
خليل عبد القادر
فنان تشكيلي سوري من مواليد 1955م، غادر قريته التي ولد بها (حسي أوسو) التي تتبع لناحية عامودا باكراً، وانتقل إلى مدينة الحسكة، ومنها غادر سوريا ليستقر أخيراً في ألمانيا منذ نحو ثلاثين عاماً.