أكتب لكم من الخيمة، هذه التي أصبحت اليوم الملجأ، حلم كل ناج من الزلازل في الشمال السوري، الخيمة التي كافح أهلي للحصول عليها وكانوا قبل أيام مترددين، لكن وجودي بينهم ضاعف عليهم المسؤولية، ولا يكاد أحد يجرؤ اليوم في الشمال المنكوب على استقبال الناس تحت سقف بيتوني برأس مرتاح وواع.
النوم في خيمة كان قبل عدة أيام فقط معيارا لنوع ما من الشقاء، لكنه الآن قد يعطي راحة بال وطمأنينة مفقودة منذ ضربت الزلازل هذه البقعة من الأرض، وزرعت في النفوس رعبا وخوفا لم يعرفه أحد هنا رغم كل الأهوال التي مرت على الناس. سيصير البيت الدافئ بجدرانه الصلبة وسقفه العالي من مصادر الرعب الجديدة، وقد كان إلى وقت قريب حلما..كيف حصل هذا وانقلب الحال؟
لقد تعرض السوريون لزلزال مدمر في السادس من شهر شباط /فبراير قلب حياتهم عقبا على عقب، لملموا جرحهم النازف ودموعهم بكبرياء، وبالكاد تجاوزوا الهزة العنيفة، لتأتيهم أخرى وهم على الأولى شهود فما عادت الأرض تثبت تحت أقدامهم، وتحول كل شيء مألوف في يومياتهم تحولا جذريا، مكامن الخطر والأمان، الأحاديث والهموم والتخطيط والتدبير.. كل شيء تغير.
ولطالما وصف السوريون طيران نظام الأسد بالأعمى، وفي هذا مثلبة ومنقبة، الأولى أنه لا يميز في قصفه بين مدني والعسكري ويجتهد بإذاء الناس، والثانية أنه لا يستطيع القصف ليلا فما كان أكثر الموت يأتي في الليل.
تبدلت سكينة الليل وصار هما، لقد أطاح الزلزال الارتدادي الأخير (٢٠ شباط / فبراير) ببقية المعنويات، وحطم في النفوس المنكسرة ركنا صلبا أخيرا، وصار السوري في الشمال هشا، ولم يكن كذلك فأغلب الناس هنا قارعوا في الميادين عتاة المحاربين من جيش النظام وحلفائه وما هانوا ولا لانوا بل صمودهم وعزيمتهم هي التي كانت تحييهم.. لكن نوعا غريبا من الرعب أصابهم ما عرفوه ولم يجدوا له بعد سبيلا، كأن تطبق السقوف على من تحتها وتتحول الدور الواسعة والطوابق إلى أكوام من ركام وأنقاض وحيوات، وتسحق الأجساد والعظام في أمكنتها، وتودع مدن أحياء كاملة بما فيها ومن فيها، ويصير الموت عائليا، والنجاة نادرة، وما إن يظن الناس أن كل هذا الهول انتهى ومر حتى يأتيهم مجددا وهم في صحوة من أمرهم، والشواهد غير بعيدة ورائحة الموت ما تزال موجودة وهدير الأرض التي تمور بهم لم يُنس بعد، فرأوا أن يلتصقوا بها فإما تحملهم أو تصير قبورهم، فأصبحت الخيام حلا.
أكتب لكم الآن من الخيمة وقد وصلت إلى الشمال بعد أن انتهى كل أمل بإيجاد أحياء بعد الزلزال الأول المدمر، وجفت الدماء وكثرت الدموع والحسرات، وأغيث الناس مؤقتا لكن قدرا آخر جدّد الخوف بين الشجعان وقد ضاقت الخيارات.. كنت أحمل في كراستي الكثير لأقوله عن ضرورة التفكير بعمق في طرق الاستجابة والاستفادة من التجارب السابقة والبناء عليها وتحويل الاهتمام الظرفي إلى حالة دائمة وضرورة مقارعة نظام الأسد مجددا في الميدان السياسي والدبلوماسي، لكن في الخيام لا مجال إلا للتفكير بالليلة القادمة.
أكتب لكم من خيمتي وقد تمكنت للمرة الأولى من النوم ومن فرد جسدي الذي طواه القلق لثلاث ليال سابقة، وللمرة الأولى التي استطعت فيها الكتابة، في الخيمة رأيت الناس ينامون حقا وقد أنهكهم كل شيء حتى الأمل. رأيت ابتسامات غابت طويلا خلف ملامح متوترة ووجوه شاحبة، وسمعت أحاديث كاملة لا يقطعها نباح كلاب مفاجئ أو صوت غريب، أو انقطاع في التيار الكهربائي.. للمرة الأولى أحس أن الآباء لا يأبهون لابتعاد أطفالهم عن مرمى نظرهم وأيديهم. نعم كنت أحس بالتصاق الناس ببعضها فلا يريد أي أحد أن يموت وحيدا أو أن ينجو وحيدا، نعم كانت كل أم قابلتها أو آب، متأهبة للانقضاض على أطفالها وتغطيتهم بجسدها وقد رأوا من نجى من تحت ذراعي والديه.. في الخيمة يعبث الأطفال بعيدا في نار أوقدوها ويراقبهم والدهم من بعيد مبتسما.
أكتب لكم والناس في خيامهم مرتاحون من تعب لا شفاء منه تعب الترقب والقلق، ويتبادلون الرثاء، ففي كل بيت حزن ولدى كل عائلة قصة، ويتذكرون فقدائهم وتنهمر الدموع بسخاء، ويذكّرون بعضهم بمن فقدوا، ويراجعون معا اللحظات التي مروا بها، يسأل من له مصاب عن حاله، وتعرّفوا على مسميات وأشياء جديدة، فصار في قاموس عذاباتهم الواسع إضافة لما قاسوه في سنوات ثورتهم وتهجيرهم، مصطلحات جديدة جاء بها الزلزال من قبيل متلازمة الهرس، الإصابات السحقية، دعم ما بعد الصدمة، البتر اللازم..
في النهار تسري الحياة في الشوارع والأراضي الفارغة والساحات على قدم عرجاء وساق مكسورة لكنها تمضي، وقد أمن الناس الضوء، وتسري الأخبار والمعلومات وسيل من الشائعات والنظريات والتحليلات، والصور والخرائط.. لا ينسون أنهم خذلوا من الجميع إلا قلة يعرفونهم جيدا ويحفظون جميلهم، ولا يغيب عنهم أن نظام الأسد يتاجر بالمأساة وأن حديثا واسعا في عالم مواز لعالمهم المحاصر يدور عن مبادرات وتطبيع وصفقات.. يدركون أن الزلزال أحدث زلازلاً.
يحمل كل هذا في الأذهان حتى يأتي الليل، ومن كانت له خيمة فقد فاز، ونام، وربما كتب.