"أقولُ وقد ناحت بقربي حمامةٌ.. أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟"
عن مسلسل ابتسم أيها الجنرال ستكون السطور التالية، وعن حمى التوثيق والوثيقة، وهذا هو الأمر الأكثر انتشارا هذا الأيام في أثناء عرض المسلسل على شاشتي تلفزيون سوريا وتلفزيون العربي 2، ستخيب ظنك السطور القادمة لأنها لن تخبرك عن حقيقة الشخصيات التي ظهرت في المسلسل ولا عن أن الدور الفلاني يمثل فلانا، ولا عن شخصية الضابط الآخر تمثل ضابطا بعينه، وسيخيب ظنك أيضا إذا علمت أن هذا الفائض من الاحتمالات المنتشرة حول الشخصيات ومن تمثل، قد يكون حقيقيا، وربما لا يكون!
ماذا يعني التوثيق ولماذا يشغلنا؟
لأننا ببساطة متعطشون لعمل يحكي عنا وعما عانيناه وعايشناه ونريد أن نعرف أكثر كيف وصلت أحوال بلادنا إلى ما وصلت إليه، نريد أن نتعرف إلى تلك الشخصيات التي مرت على حياة كثير منا فأحالتها جحيما، وهذا حقنا. لكن لو فكرنا بعيدا عن حمى التوثيق وقرأنا بيت الشعر الوارد في السطر الأول:
"أقولُ وقد ناحت بقربي حمامةٌ.. أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟"
وأتبعناه بتذكر الأبيات التالية:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر.. أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمر؟
بلى أنا مشتاق وعندي لوعةٌ.. ولكنّ مثلي لا يُذاع له سرُّ
وهذا البيت أيضا:
أَمِن بعد بذل النفس فيما تريدهُ.. أثاب بمر العتب حين أثابُ
ستقفز إلى الذاكرة صورة الشاعر الفارس أبو فراس الحمداني ابن عم سيف الدولة أمير الدولة الحمدانية التي امتدت لتشمل أجزاء من شمالي سوريا والعراق وكانت عاصمتها حلب في القرن العاشر الميلادي. صورة الفارس الذي وقع في الأسر في أثناء معارك دولته ضد الروم، هل يمكن أن يجزم أحد بوجود الحمامة التي ناحت قربه، هل يجزم أحد بعدد مرات أسره ومددها؟ الجواب: لا.
لكن هذه الأبيات كانت كافية لتنقل لنا القدرة على تخيل حاله وحال الدولة، شجاعته وصبره وعتبه. بهذه الأبيات وبغيرها من القطع الأدبية الفنية كنا قادرين على رسم صورة العصر كله وهذا كاف لتخيل تاريخ كامل.
لا يهم كيف نجت هذه القطع الأدبية من حرائق الزمن وكيف وصلت إلينا، إن كانت نجت بحفظها في الصدور أو بالسطور المكتوبة على جلد حيوان أو ورق ملفوف، أو منقوشة على لوح ذهبي، فالقيمة لها والعبرة فيها وبما تمنحنا من قدرة على رسم صورة للزمن الغابر وإسقاط هذه الصورة على أي زمن.. وهذا ما يفعله مسلسل ابتسم أيها الجنرال إذ إنه قدم لنا القدرة على التخيل ورسم المشهد في قصور الحكام، وكسر جدران القصور ودخل للغرف المظلمة، غرف رسم المخططات وحياكة المؤامرات وتشويه الدساتير وسفك الدم.
ما يفعله مسلسل ابتسم أيها الجنرال تقديم القدرة على التخيل ورسم المشهد في قصور الحكام، وكسر جدران القصور ودخل للغرف المظلمة، غرف رسم المخططات وحياكة المؤامرات وتشويه الدساتير وسفك الدم
ماذا فعل مسلسل ابتسم أيها الجنرال؟
نختلف أو نتفق مع ما قدمه لنا المسلسل إلى الآن من ناحية ظرف الزمان والمكان المفتوحين، هذا ليس أمرا عظيما، لكننا يجب أن نتفق على أنه استطاع أن يقدم شيئا من المحظور علينا ومما يمكن إسقاطه على أي ظرف زمان أو مكان في محيط عربي لا يختلف كثيرا عما نشاهده، بل فيه ما هو أفظع وأبشع وهذا تُرك لخيالك، ولذلك قلت ستخيب ظنك السطور إن بحثت فيها عن مشهد بعينه أو حدث أو شخص. فحقيقة الأمر أنهم جميعا يصلحون للإسقاط عليهم وجميع الأحداث تصلح كذلك لتكون هي الحكاية.
يجب أن نتفق على أنه استطاع أن يقدم شيئا من المحظور علينا ومما يمكن إسقاطه على أي ظرف زمان أو مكان في محيط عربي لا يختلف كثيرا عما نشاهده، بل فيه ما هو أفظع وأبشع وهذا تُرك لخيالك
بالعودة لصورة أبو فراس الحمداني التي رسمناها بناء على أبيات شعرية وصلتنا وسير وقصص بعضها موثق وآخر لا، سنجد بعد مدة من الزمن أن مسلسل ابتسم أيها الجنرال يشكل عملا فنيا وليس "وثيقة تاريخية" لزمن أو جماعة، لكنه يصلح لأن يكون كذلك، بل أكاد أجزم أن أحداثه إلى الآن وما سيعرض في قادم الأيام هي غيض من فيض يعلمه كثر ويسكتون عنه، والأهم أن المسلسل كعمل درامي لم يقدم فقط على أنه كذلك بل على أنه "رسالة" قد تؤسس لحالة مشتهاة بأعمال فنية خارج مظلة السلطة، والمسلسل إذ يقدم أبطاله لنا لنضعهم في لوحات معرفتنا وذكرياتنا الناقصة لنكملها، يقدم لنا أيضا نماذج تكسر الشكل السائد الذي يروج، فابتسموا جميعا واستمتعوا به فهو سيرة من تريدون معرفة سيرته أيا كان، وأسقطوه على من تريدون ومن تعتقدون، فهم جميعا كذلك ويصلحون ليكونوا أولئك المجرمين. وبعد زمن سيكون جزءا من تاريخ هذه البلاد وقد يقدم للباحث، صورة عنها أو شيئا من الصورة أو يدفعه للتخيل.
وهو مثلا ليس سيرة قرية وأسرة امتهنت زراعة المخدرات والتهريب عبر الحدود وقدم أفرادها كأبطال وأصبحت كلماتهم وعباراتهم تتداول وأشكال لحاهم موضات تتبع، وصارت حكاياتهم عن القتل و"التشبيح" تقدم كفعل فروسي بطولي يحمل هيبة وفخارا.
السقف
ما قدمه المسلسل إلى الآن وما سيقدمه حسب التوقع لا يبدو أنه خضع لسقف أو خط أحمر كما جرت العادات، بل صنع صناعه سقف حريتهم، وحولوها إلى معايير لأنهم يقدمون عملا فنيا يصور ما وراء الأبواب المغلقة، فلم تحكم العمل مقصات الرقيب بل معايير صناعه، معاييرهم الفنية والدرامية والأدبية و..و.. وليس ما يريد الرقباء أيا كانوا وأينما كانوا، وهذا ما جعل الجمهور كله رقباء شرعيين.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن مشاركة كل من شارك في العمل مهما كانت مشاركته هي فعل يستحق الثناء والتقدير قبل التعليق والنقد. والنقد حق مكفول لكل من يريد، بل واجب على كل ناقد أو مشتغل بالنقد أن يدلي بدلوه في حق العمل وهذا ما عبرت عنه الفنانة ريم علي بتكثيف ووضوح قائلة: "ما عملنا ثورة حتى نقول للعالم ممنوع النقد.. نحتاج النقد لننهض من جديد في دراما سورية تليق بأفكارنا، نحتاج لأصواتكم، ولكلماتكم".
لكن..
ليكون النقد بناء ويساعد فعلا في نهوض الدراما يجب ألا يغفل الناقد أن لهذا العمل تحديات وأبعادا أكثر منها قيما إنتاجية وأداء وألوانا ومواقع، فليكن النقد بهذه - مرة أخرى سيخيب ظن الناقد الذي صب اهتمامه على الإنتاج- لأن هذا البند هو الأسهل والأيسر للرد عليه وتفنيده فأي مشتغل في الإنتاج يعمل كلفة يوم تصوير أو أجور المواقع والمعدات والعاملين أو المبالغ التي يتقاضاها الفنانون.. هذا البند الأضعف في النقد إلا للباحث عن الإعجاب على منشوراته، وليتذكر الناقد أو الباحث عن الإعجاب أن ما يكتبه مهم لأن الباب فُتح، وليعلم أن لا قيمة لما يكتب أو يقول إلا من قيمة العمل نفسه، فلولا إنتاجه وعرضه لما كان لكل ما سيكتب أي قيمة، فاستمتعوا بالعمل وابتسموا جميعا.