تنتابنا- نحن السوريين - اللاجئين في تركيا، الغصة والحسرات، ونحن نعاين حالة الديمقراطية، بالسمع والبصر فحسب، فشعبنا لم يمارس انتخابات ديمقراطية حرة، منذ عام 1958، أي منذ خمسة وستين عامًا، يستثنى من ذلك الزمن الطويل انتخابات جرت لمرة واحدة في أواخر عام 1961، ولم يرها أو يعيها بمعناها الحقيقي، من أجيال اليوم، غير قلة قليلة جدًا، ممن هم اليوم على عتبة الثمانين أو تجاوزوها بقليل، ولمَّا آل الحكم إلى حافظ الأسد بعد صراعات بعثية دموية استمرت عدة سنوات، اخترع ديمقراطية: "لي ولأولادي من بعدي"، و"إلى الأبد"، ولتنتهي سوريا إلى ما هي عليه الآن..
ذكرت أعلاه أننا -السوريين- تأخذنا الحسرة عندما نرى الشعب التركي بكليّته مندفعًا للمساهمة في انتخابات بلاده، ما يعني أن ذلك التفاعل هو تملُّك الشعب لقدرته ومقدراته، وحين تصل نسبة المنتخبين إلى 90% فهذا لا يشير إلى المنافسة فحسب، رغم شدتها، بل إلى تفتح وعي الشعب على مصالحه، وبهذه الروح التشاركيّة التي هي، في النهاية، طوق في عنق المرشح تلازمه في حال نجاحه أو عدمه، وهي من جهة أخرى عامل ارتقاء للسياسة، ولوظيفة السياسي في الدولة الحديثة التي تفسح، في المجال، للشعب: فردًا ومجتمعًا، للإمساك بمصيره، ولتحقيق وجوده في حياته، وما تتطلبه من أمور مادية وقيم روحية.. كما أنها غاية إنسانية في حال تعبيرها عن حرية المواطن، وإثبات وجوده، منذ بدء وعيه بالتفتح، إذ تحرّر طاقات الإنسان الفرد، وتسمح له بتوظيفها في مجاليْ العمل والإبداع..
إنْ كان "حزب العدالة والتنمية" ذا مرجعية دينية، بل هو، على نحو أدقّ، ينشط على أرضية دينية، إلا أنه لم يتجاوز أسس الدولة العلمانية التي قامت عليها الدولة التركية، منذ مئة عام
إن المدقق في القوّتين المتنافستين في الانتخابات التركية يتحسس نتائجها مسبقاً، ويدرك أيضًا ماهية السياسة ووظيفتها في الدولة الحديثة..
فإنْ كان "حزب العدالة والتنمية" ذا مرجعية دينية، بل هو، على نحو أدقّ، ينشط على أرضية دينية، إلا أنه لم يتجاوز أسس الدولة العلمانية التي قامت عليها الدولة التركية، منذ مئة عام، وعلى ذلك، فقد نمت الدولة وتطورت، وهذه ميزة اتسمت بها تركيا إلى جانب دولة إسلامية أخرى هي ماليزيا، وفي ذلك دلالة تشير إلى فهم الحزب المذكور لروح الدولة العصرية، وكذلك لدور كلٍّ من الدين والدولة، ولحاجة تركيا إلى التكنولوجيا المتقدمة في تنمية قطاعاتها الإنتاجية، إذ هي عصب التنمية، وهي التي تمنح الدول قوتها، والشعوب استقرارها، وأمنها، فعمل في إطار ذلك، وحقق نجاحات كبرى دون أن يتخلى عن ثقافته وإرثه التاريخي..
وإذا كان الغرب عمومًا، وأميركا خاصة، لا يريدان لأي دولة في الشرق الأوسط، عدا إسرائيل طبعًا، أن تنمو وتتقدم، فقد استطاعت تركيا أن تتجاوز ذلك، وهنا مكمن الكراهية، إذ لا تزال تركيا في الذهنية الغربية/الأميركية هي الإمبراطورية العثمانية، التي يُخشى من ترسُّخ علاقاتها كدولة إقليمية متقدمة في وسطها الشرق أوسطي، وقد حدث ذلك، إذ هي الأقرب إقليميًا لذلك الوسط، ومن هنا، يدعم الغرب التيار الثاني المناهض للعدالة والتنمية..
إنَّ هاجس المعارضة التركية هو إسقاط حزب العدالة والتنمية، وعلى ذلك تجمَّع الأحزاب الستة، ورغم أنَّ أحزابهم صاغت برنامجًا واسعًا، متشعّبًا، لكنه أقرب إلى الأحلام البعيدة منه إلى واقعية التنفيذ.. وإذا كان أقطابه مستعدين فعلًا للتنفيذ، فإن ذلك البرنامج يحتاج إلى عقود زمنية ومن هنا كان تركيزهم على إعادة اللاجئين السوريين، وكأنَّ السوريين هم المسؤولون عن أزمات تركيا، بينما تؤكد الدراسات الاقتصادية أن العمالة السورية قد أضافت، مع رأس المال السوري، قيمًا جديدة للاقتصاد التركي كمًا ونوعًا، وثمة أمر مهم آخر هو أن تحالف الطاولة السداسية رغم تغنيه الوطني درجة العنصرية أحياناً، فهو يتجاهل تاريخ بلاده، بل إنه يريد أن يقطع مع الماضي كليًا، وهذا الأمر لا يستقيم ومبدأ المواطنة..
أخيرًا أقول، إذا كان النظام، في دمشق، يطلق على انتخاباته عرسًا وطنيًا، فإن تلك الانتخابات لا يحضرها في العادة من الشعب إلا مكرهٌ، وهي حقيقة في نظر الشعب مأتم يؤكد، في كل مرة، موت حرية المواطن، بينما رأيناها- نحن السوريين- في تركيا عرسًا حقيقيًا، تجلى بمظاهر فرح في نفوس الناخبين، وهي طرائف عرضتها بعض الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي.. أذكر منها..
أولًا: عروسان جاءا بلباس عرسهما إلى مركز الاقتراع، ومارسا فرحهما السياسي والاجتماعي. (غالبًا ما يتزوج الأتراك يوم الأحد..)
ثانيًا: حضر عدة ناخبين على أفراس بلباس شعبي تقليدي، يحمل أحدهم العلم العثماني.. وآخر تقنَّع بشخصية "سبايدرمان" السينمائية.. وجاء ثالث بلباسه الإنكشاري.. وكلٌّ كان يوقف فرسه عند الباب، ويدخل ليمارس حقه الانتخابي بروح ممتلئة بكل الاعتزاز الوطني! ودهشة فرح وإعجاب من الجمهور..
فاجأ الرئيس "رجب طيب أردوغان" بحضوره مواطنًا عاديًّا يقف بدوره في الطابور حتى إذا فوجئ به بعض من الذين أمامه، حاولوا أن يفسحوا له في المجال! لكنه لم يتجاوز دوره.
ثالثًا: امرأة تركية طويلة جدًا (معروفة بأنها أطول امرأة في العالم) الأمر الذي يعيق حركتها.. فكان أن احترمها الصندوق الانتخابي متشرفًا بزيارتها، ومانحًا إياها متعة التصويت لمن ترغب.. رجل آخر، ربما أطول من تلك المرأة، قيل إن طوله 250 سنتمترًا.. إذ حضر في شاحنة صغيرة مكشوفة، وحين دخل غرفة الانتخاب كاد أن يلتصق رأسه بسقفها.. وكان يتوكأ على شاب يصل إلى ما دون كتفه..
رابعًا وأخيرًا: فاجأ الرئيس "رجب طيب أردوغان" بحضوره مواطنًا عاديًّا يقف بدوره في الطابور حتى إذا فوجئ به بعض من الذين أمامه، حاولوا أن يفسحوا له في المجال! لكنه لم يتجاوز دوره. (هذه الطرائف عرضها تلفزيون سوريا كما عرضتها قنوات أخرى..).
وتبقى الانتخابات التركية نموذجا حيًاً للديمقراطية التي يحلم بها أيُّ مواطن يحب وطنه، وخاصة السوريين الذين عانوا بسببها الكثير، ومن أجلها كان انفجارهم أوائل العام ٢٠١١، ففيها ومن خلالها، كان يمكن الوصول إلى دولة لكل مواطنيها، دولة تتجدد وفق قانون تداول السلطة التي يفوز فيها من يخدم شعبه، ويتبنى قضاياه، ويحققهما..