بعد اللغط الذي حدث عند اقتحام مبنى الكونغرس الأميركي في السادس من كانون الثاني عام 2021، أعلنت شركة فيس بوك وهي الشركة الأم لمنصات ميتا عن رغبتها بالتخفيف من المحتوى السياسي الكبير الذي تعرضه لمستخدميها. إلا أن هذه الشركة مضت باتجاه أبعد مما يمكن لأي بشر أن يدركه.
تمثلت نتائج تلك الجهود بإعادة رسم تدريجية لشكل الخطاب السياسي على أكبر منصة للتواصل الاجتماعي في العالم، حتى بالرغم من عدول الشركة عن نهجها الأشد عدوانية، وذلك عبر الضغط على زر كتم الصوت مع كل المقترحات ذات المحتوى السياسي.
وفي بعض الأحيان، بذلت تلك الشركة جهوداً مضنية خلال السنة والنصف الماضية لتخفف من السياسة، كما قامت بتحديد المواضيع المثيرة للانقسامات على تلك المنصة ضمن وثائق داخلية اطلعت عليها صحيفة وول ستريت جورنال.
أكثر من مجرد تعديلات
في البداية، عدل فيس بوك من طريقته في الترويج للمحتوى الذي يتصل بأمور السياسة والصحة، إذ من خلال استبيانات تم إجراؤها تبين بأن المستخدمين سئموا من الصراع، ولذلك بدأت المنصة بتفضيل المنشورات التي يعتبرها المستخدمون جديرة بإمضاء وقتهم عليها، على تلك التي تثير حفيظتهم فحسب، وذلك وفقاً لما ورد في تلك الوثائق. وهكذا صارت النقاشات مقبولة، إلا أن فيس بوك لم يعد يضخمها كثيراً.
إلا أن قادة شركة ميتا لم يكتفوا بذلك. لذا مضى المدير التنفيذي مارك زوكربيرغ ومجلس إدارة ميتا، في أواخر عام 2021- بعدما سئموا من المزاعم التي لا تنتهي حيال التحيز في مجال السياسة وحول الرقابة أيض- بالشركة لما هو أبعد من التعديلات المتزايدة، بحسب ما ذكره أشخاص اطلعوا على تلك النقاشات. وبعد تقديم سلسلة من الخيارات، اختار زوكربيرغ ومجلس إدارة شركته الخيار الأشد قسوة، حيث وجهوا الشركة نحو تخفيض ترتيب المنشورات التي تدور حول مواضيع حساسة قدر الإمكان ضمن آخر الأخبار، أي ذلك القسم الذي يستقبل المستخدمين بمجرد فتحهم للتطبيق. إلا أن أحداً لم يتحدث عن هذه العملية من قبل.
أتت تلك الخطة منسجمة مع مطالب بعض أشد الناس انتقاداً للشركة ممن زعموا بأن فيس بوك لا ينحاز لأي طرف على الصعيد السياسي ولا يحفزه أي شيء على الصعيد التجاري حتى يقوم بتضخيم خطاب الكراهية والجدل. إذ على مدار سنوات، كان المعلنون والمستثمرون يضغطون على الشركة لتوضح دورها المشوش حيال السياسة، وذلك بحسب ما ذكره أشخاص اطلعوا على تلك النقاشات.
وهكذا اتضح بأن الخطة الساعية لإسكات السياسة ستترتب عليها عواقب وأضرار جانبية، بحسب ما ورد في بحث داخلي ووفقاً لما ذكره أشخاص اطلعوا على هذا المشروع.
تمثلت النتيجة بانخفاض أعداد مشاهدات المحتوى الذي يقدمه من يعتبرهم فيس بوك: "جهات تنشر أخباراً عالية الجودة" مثل فوكس نيوز وسي إن إن لتصبح أقل من المشاهدات التي تحققها مواد نشرتها قنوات تعود لمستخدمين عاديين وتعتبر أقل موثوقية من تلك المحطات الإخبارية. كما ارتفعت نسبة الشكاوي التي تقدم بها مستخدمون حول التضليل الإعلامي، وهبطت التبرعات الخيرية عبر منتج الشركة المخصص لجمع التبرعات من خلال فيس بوك خلال النصف الأول من عام 2022، ولعل الأهم من كل ذلك، هو أن المستخدمين لم يعد يعجبهم فيس بوك.
اقتحام مبنى الكونغرس في 6 كانون الثاني عام 2021
وخلصت إحدى التحليلات الداخلية إلى أن فيس بوك يمكن أن يحقق بعضاً من أهدافه عبر الحد بشكل كبير من المحتوى المدني، والمقصود بذلك التغطية المتعلقة بقضايا سياسية واجتماعية ومحلية، ضمن آخر الأخبار، إلا أن ذلك سيأتي على حساب تكلفة عالية لا يمكن تخفيضها بأي شكل من الأشكال.
مقاربات كثيرة
وهكذا، وبنهاية شهر حزيران، أنهى زوكربيرغ الخطة الأشد تطرفاً، إذ نظراً لعدم تمكن فيس بوك من قمع الجدل السياسي بالقوة الناعمة، لذا فقد تراجع عن فرض المزيد من التغييرات التدريجية التي تتصل بطريقة الترويج لآخر الأخبار التي تعتبرها الشركة تتطرق لمواضيع حساسة على حد تعبيرها، مثل الصحة والسياسة.
وحول ذلك تخبرنا داني ليفار الناطقة الرسمية باسم الشركة، فتقول: "كما سبق وأن قال مارك قبل عامين تقريباً، أصبح الناس يرغبون بعدم رؤية الكثير من السياسة بالمجمل على فيس بوك، مع قدرتهم في الوقت ذاته على الخوض والمشاركة بالمحتوى السياسي إن كانت لديهم رغبة بذلك، وهذا بالضبط ما نفعله. إذ خلال السنوات الماضية، جربنا الكثير من المقاربات، وطبقنا في نهاية الأمر تغييرات تحد من السياسة، مع تقديم التجارب التي يريدها الناس".
بيد أن هذه المقاربة الحالية ماتزال تحد من الطريقة التي يتم من خلالها عرض كم كبير من ذلك المحتوى على المستخدمين، إذ تقدر ميتا اليوم نسبة الحسابات ذات المحتوى السياسي بأقل من 3% من مجمل ما يشاهده المستخدمون من محتوى ضمن آخر الأخبار، أي بنسبة تراجع قدرت بـ6% عما كانت عليه خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020، بحسب ما تثبته الوثائق. ولكن، بدلاً من تخفيض نسبة المشاهدات عبر قمعها وكبتها بلا أي تمييز أو عبر إدارتها وضبطها بصرامة، غير الفيس بوك من خوارزميات آخر الأخبار التي تتصل بالتوصية بالمحتوى الحساس واتجه نحو ما يهتم به المستخدمون ويقدرونه وفقاً لما ذكروه في حساباتهم، فابتعد بذلك عما يمكن أن يدفعهم للمشاركة والانخراط في التفاعل بكل بساطة، وذلك بحسب الوثائق والأشخاص المطلعين على تلك الجهود.
وعن ذلك يحدثنا رافي إيار، وهو المدير السابق لقسم البيانات والعلوم لدى ميتا، والذي عمل في هذا الشأن قبل أن يغادر منصبه في أيلول ليصبح المدير الإداري لمعهد علم نفس التقانة لدى جامعة ساوث كاليفورنيا، فيقول: "تبين بأنه من المحتمل للطريقة التي نقوم من خلالها بالتوصية بالمحتوى السياسي ألا تكون نفسها التي نتبعها عند التوصية بمحتوى يهدف للتسلية والمتعة". كما ذكر إيار بأن النهج الحالي الذي تتبعه ميتا يقوم على الابتعاد عن النموذج الذي يركز على الإدارة والذي تم اعتماده منذ أمد بعيد، ليس فقط من قبل فيس بوك، بل أيضاً من قبل الكثير من منصات التواصل الاجتماعي الكبرى.
وأضاف إيار بأنه لابد من التركيز بشكل أكبر على الطريقة التي تسمح من خلالها تلك المنصات لمحتوى معين بالانتشار بشكل واسع، بدلاً من اتخاذ قرارات ذاتية غير موضوعية حيال المحتوى الذي يترك لينتشر أو الذي يتم عرضه في نهاية آخر الأخبار، وقال: "عندما يعود الحكم للموظفين للفصل بين الخطاب الصالح والطالح، فإن ذلك لابد وأن يخلق في الغالب الأعم المزيد من المشكلات بدلاً من إيجاد الحلول، لذا ينبغي أن يكون هدفنا هو الحد من تلك الأحكام".
تحول المحتوى الصحي إلى محتوى حساس بالنسبة لفيس بوك
خطر يهدد الناشرين
أضحت التوجهات الأخيرة التي قامت بها شركة ميتا تمثل خطراً يتجلى بإبعاد بعض الناشرين الرقميين الذين أسسوا مشاريع تعتمد على تغذية خوارزميات آخر الأخبار على تلك المنصة.
فشبكة Courier Newsroom هي عبارة عن شبكة تعتمد على ثماني جهات نشر رقمية، وتصف نفسها بأنها: "أكبر شبكة إخبارية محلية ذات ميول يسارية في البلد"، إلا أنها عانت وهي تحاول أن تجذب الناس على فيس بوك، مع تسارع وتيرة عملها من أجل الانتخابات النصفية لعام 2022. إذ على الرغم من زيادة مخرجاتها من المقالات بنسبة 14.5% خلال شهر تشرين الأول الماضي، إلا أن الشركة اكتشفت بأن عدد نسبة ظهورها الحقيقية دون دفع على فيس بوك، والمقصود بذلك دون أي ترويج مدفوع الأجر من أجل تعزيز ظهورها، قد هبطت بمعدل 42.6% عما كانت عليه قبل شهر.
وحول ذلك تعلق تارا ماكغوان، إحدى من يترأسون جهات النشر لدى تلك الشبكة، فتقول: "مايزال الفيس بوك أحد أقوى منصات النشر وأكثرها وصولاً في العالم.. ولكن عبر الحد من وصول الجهات الموثوقة الناشرة للأخبار على منصتها، لابد وأن يزيد الفيس بوك من تفاقم أزمة المعلومات في أميركا، بعدما ساعدت تلك المنصة على ظهور تلك الأزمة".
وبالنسبة للموقع الإخباري التقدمي الذي يعرف باسم ماذر جونز Mother Jones والذي يغطي بالأساس موضوعات وقضايا سياسية واجتماعية، فإن مجمل مشاهدات محتواه على فيس بوك خلال عام 2022 قد هبطت بنسبة 35% عما كانت عليه خلال الفترة نفسها من العام الماضي، وحول ذلك تعلق مونيكا بودرلين المديرة التنفيذية لذلك الموقع، فتقول: "إنها لصورة قاتمة أن ترى في ظل هذه الشروط الصارمة مدى القوة التي تتمتع بها شركة تقنية واحدة بما يسمح لها بالتحكم بالأخبار التي يمكن للناس الوصول إليها".
فيما يرى دان بونجينو وهو معلق محافظ أصبحت صفحته على فيس بوك من أكثر الصفحات رواجاً على تلك المنصة، بأن إدارة المستخدمين، أي ذلك الإجراء المتبع بخصوص إعجاباتهم وتعليقاتهم ومشاركاتهم، أصبحت في ازدياد، بحسب ما أوردته أداة CrowdTangle التحليلية. ويعتقد هذا الرجل أيضاً بأن الأسلوب الذي اتبعه فيس بوك بطريقة استراتيجية للابتعاد عن السياسة يعبر عن فشل في التوجهات، ويعود أحد أسباب ذلك بنظره إلى أن قاعدة المستخدمين باتت تتقدم في العمر وتميل أكثر نحو الاهتمام بالقضايا السياسية، ويضيف: "كان بوسعهم أن يستغلوا جمهورهم الأكبر سناً لتمويل ميتا الأكثر روعة والتي تستقطب جمهوراً أصغر سناً، إلا أنهم قالوا لأنفسهم عوضاً عن ذلك: لقد فهمنا الفكرة، لذا فلنحمل حملنا الثقيل من المستخدمين الأكبر سناً ممن يحبون المحتوى المحافظ ولنرمي بهم خارج هذه المنصة".
لطالما تضاربت مصلحة فيس بوك مع السياسة على مدار سنوات، وذلك نظراً لقلة الموضوعات الأخرى التي تثير حفيظة المستخدمين، بعدما أصبحوا ناشطين متفاعلين على وسائل التواصل الاجتماعي.
فيس بوك يحابي المحتوى التحريضي
في خطابه الذي ألقاه بجامعة جورج تاون عام 2019، دافع زوكربيرغ عن دور وسائل التواصل الاجتماعي في السياسة والمجتمع، عندما قال: "أعتقد بأنه لابد من تمكين الناس من استخدام خدماتنا لمناقشة قضايا يؤيدونها بشدة، بدءاً من الدين والهجرة وصولاً إلى السياسة الخارجية والجريمة"، مفنداً بأن الدور الذي لعبه فيس بوك في الخطاب السياسي كان صحياً في نهاية المطاف.
إلا أن مقالة نشرت في صحيفة وول ستريت جورنال خلال عام 2021، واستشهدت بأحد الأبحاث الداخلية للشركة، أظهرت بأن الخطوات المتبعة لتعزيز عملية المشاركة قد فضلت المواد التحريضية، بعدما صار الناشرون والأحزاب السياسية يوجهون منشوراتهم نحو إثارة الغضب والتحريض.
بيد أن فيس بوك يخبرنا بأنه لديه فريق نزيه متخصص بمعالجة القضايا المتعلقة بالجهود التي تبذل لاستغلال خوارزمياته، وبأنه غير مسؤول عن الانقسامات الحزبية داخل المجتمع.
واصل الباحثون عمليات توثيق حالات التعامل التفضيلي التي يبدها فيس بوك تجاه المحتوى السام، حتى بعد نشر تلك المقالات. إذ في محاضرة ألقيت في تشرين الأول من عام 2021 تم التطرق إلى أن خوارزميات فيس بوك قد قدمت على مدار فترة طويلة دوافع لخلق "محتوى غير موثوق يحرض على إثارة الحنق والغضب".
وفي أعقاب انتخابات عام 2020 في الولايات المتحدة، واقتحام مبنى الكونغرس في السادس من كانون الأول، زادت الضغوط على الشركة حتى تقوم بإيجاد حل للفكرة التي انتشرت عنها والتي تقول بإنها إما منصة سامة أو متحيزة.
تجارب فيسبوكية
أظهرت استبيانات الشركة بعد الانتخابات بأن المستخدمين يرون بأن فيس بوك كان لها تأثير غير صحي على الخطاب المدني، وبأنهم صاروا يرغبون بأن يشاهدوا عدداً أقل من الأخبار السياسية على تلك المنصة، ولذلك خضع المدراء التنفيذيون لتلك الشركة لاستجواب من قبل النواب ضمن جلسات استماع جرت في الكونغرس الأميركي.
مستخدمو فيس بوك يعتبرون بأن لهذه المنصة دور غير صحي على الخطاب المدني
كان من الواضح بأن زوكربيرغ قد سئم الحديث عن هذا الموضوع، ولهذا قال: "إن السياسة شيء يتسرب لكل لشيء"، وذلك خلال جلسات الاستماع التي عقدت في كانون الثاني من عام 2021، بعد مرور أسابيع على اقتحام مبنى الكونغرس. وأضاف زوكربيرغ بأن الناس ضجرت من السياسة، ليس فقط في الولايات المتحدة، بل في مختلف بقاع العام. ولأول مرة أعلن على الملأ بأن فيس بوك صار يبحث عن أساليب ليبعد التركيز عن المحتوى السياسي في آخر الأخبار، حيث قال: "لا أعتقد بأن التوصية بهذا المحتوى اليوم تفيد المجتمع".
وفي شهر شباط نفسه، أعلنت فيس بوك بأنها قد تبدأ بالتقليل من المحتوى السياسي لفترة مؤقتة، وبأن ذلك سيطبق على نسبة ضئيلة من الناس، إلى جانب تجريب أساليب لتحسين الخدمة المقدمة للمستخدمين. والهدف من ذلك لم يكن الحد من النقاشات السياسية بحسب ما ذكرته الشركة، بل: "احتراماً لرغبة كل شخص حيال ذلك".
بدأت تلك التجربة في الولايات المتحدة والبرازيل وكندا، وذلك عبر الابتعاد عن الأسلوب المعتاد القائم على اختبار تغييرات أساسية ضمن أسواق ثانوية.
وبعد مرور ستة أشهر على ذلك، أعلنت الشركة عن تحقيقها لتقدم باتجاه تحديد: "المنشورات التي يقدرها الناس أكثر من غيرها"، وهذا قد يقلل من التركيز على المشاركات والتعليقات مستقبلاً.
لقد قلل ذلك الإعلان من حجم التغيير الحاصل، وذلك لأن فيس بوك لم تقم بإضعاف التركيز على المشاركات والتعليقات على المواضيع المدنية، بل أخفت تلك الإشارات من نظام التوصيات لديها بشكل كامل.
حيث ورد في إحدى الوثائق الداخلية التي تم الحصول عليها لاحقاً ما يلي: "لقد نزعنا كل الثقل والزخم الذي نقوم من خلاله برفع المنشور بناء على توقعاتنا التي ترى بأن أحدهم سيعلق عليه أو سيشاركه".
مقاربة عدائية/دفاعية
كانت تلك نسخة أشد عدائية من تلك التي بقي بعض الباحثين لدى فيس بوك يحثون على تطبيقها على مدار سنوات، إذ تمثلت معالجة مشكلة عدم دقة المعلومات وغيرها من القضايا المتعلقة بالصحة والصدق بالتقليل من انتشار المنصة، وبما أن هذه المقاربة لم تقم على إجراء رقابة على الآراء، أو تخفيض رتبة المحتوى عبر نظم غير دقيقة تعتمد على الذكاء الصناعي، لذا فقد اعتبرها كثيرون بلغة الشركة مقاربة "دفاعية".
أظهرت البيانات الداخلية للشركة بأن الآراء التي تتصل بالمحتوى المدني ضمن آخر الأخبار قد هبطت بنسبة الثلث تقريباً. وبما أن الشركة لم تعد تسلط الضوء على المنشورات التي تتوقع لها أن تجتذب الكثير من الردود، لذا فقد هبطت التعليقات على المنشورات المدنية بنسبة الثلثين. كما تراجعت ردود الفعل الغاضبة لأكثر من النصف على المحتوى المدني، وانتشر ذلك في ربع المنصة عموماً. وتراجعت مع كل ذلك حالات التنمر ونشر معلومات غير دقيقة والصور التي تعبر عن العنف.
لكن ذلك أتى على حساب شيء آخر، إذ بالرغم من أن المستخدمين أبلغوا فيس بوك بأن أخبارهم وما ينشرونه على المنصة يستحق المزيد من الوقت من قبلها، إلا أن تسجيلهم لدخول المنصة قد تراجع بنسبة 0.18%. وعلى الرغم من أن تخلي الشركة عن تلك التغييرات قد أدى لمنع حالات التراجع تلك، إلا أنها قبلت بدفع ذلك الثمن هذه المرة.
بيد أن القلق بقي يساور مجلس إدارة الشركة حيال ما تمت الإشارة إليه داخلها على أنه: ظهور على المستوى السياسي، أي إلى أي مدى يربط الناس بين فيس بوك والمواضيع التي تثير جدلاً واسعاً، وذلك بحسب ما ورد في وثائق حول هذا الأمر، ووفقاً لما ذكره أشخاص اطلعوا على الموضوع.
أثر فيسبوكي ضار على المجتمع
فقد أبلغ المستخدمون فيس بوك بأن المحتوى المدني ما يزال يتسبب لهم بتجارب سيئة، كونه يولد حالات إبلاغ كبيرة عن الشتائم والكفر والتنمر والتضليل الإعلامي. كما أظهرت استبيانات خضع لها مستخدمون بأن الناس باتوا مقتنعين بأن تلك المنصة لها تأثير غير صحي على المجتمع.
فما كان من مجلس إدارة الشركة وزوكربيرغ إلا أن قرروا كبت المحتوى المدني على نطاق واسع ضمن آخر الأخبار. بيد أن إخفاء السياسة لا يتم بكبسة زر، وذلك لأن خوارزميات آخر الأخبار تحتوي على 30 ألف سطر من الشيفرات والرموز، لذا فإن عدم تحري الدقة عند البحث والتدقيق في المحتوى يعني قدرة فيس بوك على الحد من الآراء التي ترد ضمن المحتوى السياسي بنسبة تعادل 70% فقط، كما لا يمكن للتغييرات المطروحة أن تعالج وبطريقة مباشرة مشكلة الجدل الذي يقوم داخل منتديات تضم مستخدمين يحملون العقلية نفسها، وهذه المنتديات تعرف باسم مجموعات فيس بوك، والتي تحولت إلى بؤرة ساخنة تناقش مواضيع تتصل بعدم صحة المعلومات حول اللقاح، ورفض نتائج الانتخابات.
خرجت فيس بوك بطريقة للحد من المنشورات السياسية والصحية
خططت شركة فيس بوك للتوسع في تلك التغييرات خلال صيف عام 2022، أي قبل موعد الانتخابات النصفية الأميركية، إذ تظهر الوثائق كيف خططت الشركة لإبلاغ المستخدمين بهذا التغيير كما كانت تدرس الطريقة التي يمكنها من خلالها أن تقدم لهم خيارات تتصل بذلك.
حاولت الشركة توقع التداعيات عبر تجريب تلك التغييرات التي ستطرأ على الخورزميات على مجموعة شملت أكثر من ربع مستخدمي فيس بوك في الولايات المتحدة، فأظهرت التجارب بأن الآثار ستكون شديدة على أغلب ناشري الأخبار.
وبالاعتماد على خليط من ميزات الكبت، فإن الظهور المتوقع للمحطات الإخبارية على فيس بوك، ومنها Fox News وMSNBC و New York Times وNewsmax، وAtlantic، وThe Wall Street Journal سيهبط في بداية الأمر بنسبة قدرت ما بين 40-60%، هذا إلى جانب الحد من نسبة الظهور التي سبق وأن فرضت قبل ذلك، ومن المرجح لآثار تلك التغييرات أن تقلص من الطرق التي عثر عليها الناشرون للتكيف مع هذا الوضع.
إلا أن الشركة لم تر في ذلك أي مشكلة، وذلك لأن تحليلاً رافق تلك التغييرات أشار إلى أن فيس بوك تأمل أن تحد من الدوافع التي تؤدي لإنتاج محتوى سياسي على حد تعبيرها.
أضرار فيسبوكية طالت المجال الخيري
إن التجربة القائمة على تخفيض نسبة الظهور والتي طبقت على نسبة ضئيلة من مستخدمي فيس بوك تسببت بهبوط قدر بـ10% وذلك في التبرعات المقدمة للجمعيات الخيرية عبر ميزة جمع التبرعات التي تقدمها تلك المنصة، ما يعني بأن الجمعيات الإنسانية والمؤسسات الأهلية التعليمية والمشافي القائمة على التبرعات الخيرية لابد وأن تتعرض لضربة قاصمة بالنسبة لحالة تفاعلها وتفاعل الناس معها عبر فيس بوك.
ولهذا السبب، حذرت محاضرة أقيمت داخل الشركة من أنه في الوقت الذي يتم فيه إخفاء المحتوى السياسي على نطاق واسع بهدف التخفيف من التجارب السيئة التي يتعرض لها المستخدمون، فإنه من المرجح: "لنا أن نستهدف أيضاً المحتوى الذي يرغب المستخدمون برؤيته حقاً... فغالبية المستخدمين ترغب برؤية الكم ذاته من المحتوى السياسي أو أكثر مما يرونه في تسلسل الأخبار لديهم اليوم، ما يعني بأن التجربة السيئة الأساسية تتمثل بالنزاعات والانقسامات والتضليل الإعلامي ضمن المحتوى السياسي".
والشيء المقلق أكثر من ذلك هو أن المحتوى السياسي الذي تم إخفاؤه لم يعد يقنع المستخدمين على الأرجح بأن فيس بوك لم يكن ساماً وضاراً على المستوى السياسي، إذ وفقاً لأحد الأبحاث الداخلية، فإن نسبة المستخدمين التي ذكرت بأنها تعتقد بأن للفيس بوك أثر سلبي على السياسة، لم تتغير عندما طرحت تلك التغييرات، بل بقيت تراوح المكان عند نسبة 60% في الولايات المتحدة.
بيد أن كل تلك البيانات والمعلومات أقنعت زوكربيرغ في أواخر شهر حزيران بالتخلي عن التغييرات التي تم التخطيط لها على المدى البعيد، ما جعل الشركة تعيد النظر من جديد بطريقة ترويجها للمحتوى الحساس، بعدما أسست الشركة طريقة لإبعاد المنشورات السياسية والصحية عن جهودها شبه المتواصلة لتعزيز التفاعل.
ماتزال شركة فيس بوك تناقش مسألة ما إذا كان ينبغي عليها أن تحد أيضاً من طريقة ترويجها لأنواع أخرى من المحتوى، إذ عندما حرمت آخر الأخبار من الجائزة المتمثلة بإنتاج المنشورات التحريضية على مستوى السياسة والصحة، توجه بعض الناشرين نحو نشر المزيد من الجرائم التي تنطوي على عنصر إثارة أكبر.
تغييرات فيس بوك دفعت الناشرين لنشر أخبار عن جرائم مثيرة
وحول ذلك يعلق إيار بالقول: "لقد فتح ذلك الباب للتفكير بالحدود الفاصلة التي يجب أن توضع بين المحتوى الحساس وغير الحساس، لذا من الرائع أن يركز العالم على هذه النقطة من النقاش حول هذا الموضوع".
بعد مرور أسابيع قليلة على تخلي زوكربيرغ عن مخططاته لإجراء تغييرات واسعة النطاق، أضافت الشركة فكرة مقتضبة عبر منشور ظهر على مدونتها في شباط 2021، جاء فيه بأنها تعلن عن خطط تجريبية تسعى لعرض نسبة أقل من المحتوى السياسي على المستخدمين، حيث جاء في ذلك المنشور ما يلي: "خلصت تجاربنا إلى أن تقليل التركيز على المشاركات والتعليقات الخاصة بالمحتوى السياسي يمثل طريقة ناجعة للحد من كم المحتوى السياسي الذي يتعرض له الناس ضمن تسلسل الأخبار لديهم، ولهذا قمنا بتطبيق تلك التغييرات الآن على مستوى العالم".
وفي وثيقة صدرت حول المخططات الحالية تم من خلالها وضع قائمة للحد من التجارب السيئة مع المواضيع الحساسة، تم تصنيف تلك العملية بأنها لا يمكن أن تثني الفريق الذي يعمل على التحقق من صدق وصحة آخر الأخبار على فيس بوك عن جعل ذلك أولوية بالنسبة له، حيث جاء في تلك الوثيقة ما يلي: "ينبغي علينا تسريع وتيرة هذه العملية وتعميمها على فيس بوك فيما يتصل بهذه الناحية".
المصدر: The Wall Street Journal