icon
التغطية الحية

فلسفة النجاة وغريزة البقاء والسلطة.. بين رواية "محطم الثلج" ومسلسل "قطار الحياة"

2022.04.16 | 05:00 دمشق

qtar_alhyat-_tlfzywn_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

تقترن الصورة الذهنية للتطرف بـ الدِّين بالدرجة الأولى وبالفكر والسياسة بالدرجة الثانية، فنقول تطرف ديني أو فكري... إلخ، والتطرف في اللغة يعني الابتعاد إلى الجانب أو الاستطراف؛ من الطُرفة، ولكننا لا نتخيل علاقة له بالطبيعة والمناخ فيما عدا "تطرفت الشمس" مثلاً، أي دنت إلى الغروب.

إلا أن هناك ظواهر مناخية متطرفة، في كناية عن التغيرات الجوية غير الفصلية المفاجئة، كالأعاصير الحلزونية المدمرة وموجات الحرارة المتطرفة التي قد تكون رطبة أو جافة كارثية، ويُعزى سبب تلك الظواهر إلى الاحتباس الحراري الذي ظهر عام 1988 كمصطلح يعبر عن ارتفاع في معدل درجة حرارة الهواء الجوي في الطبقة السفلى من سطح الأرض بسبب ارتفاع في نسب الغازات الدفينة كثاني أوكسيد الكربون والميتان وغيرها، ويعود ذلك كله إلى السلوك البشري بالدرجة الأولى، الأمر الذي ينبئ بذوبان الثلوج واتساع الصحارى والجفاف وانقراض أنواع نباتية وحيوانية قد يكون من ضمنها الإنسان، وينتهي بالأرض ككتلة من اللهب!

لا يتطابق هذا التصور لنهاية العالم مع الرواية الفرنسية المصورة "محطّم الثلج" (Le Transperceneige) للمؤلفين: جاك لوب، بنجامين ليجراند، جان مارك راشيت سنة 1982؛ التي افترضت عمل العلماء على وضع حد للاحترار العالمي ومحاولتهم تبريد الأرض، ولكن المادة التي وضعوها حول الغلاف الجوي أدت، بخلاف توقعاتهم، إلى تناقص حرارة الأرض بشكل مفرط لتصل إلى 120 درجة تحت الصفر، فلم يبق ما يشير إلى الحياة إلا أبنية وجسور وغابات متجمدة، لكن مجموعة قليلة من البشر تنجو على متن قطار يعتمد تقنية الحركة الدائمة عبر الطاقة المتولدة من هيدروجين الثلج المسحوب من موانئ خاصة، ومنه يؤمن المياه، وكذلك يخصص بين عرباته الكثيرة جداً أقساماً لتربية الأبقار والدجاج والأسماك والنباتات، إنه قطار متكامل يختصر الحياة في بطن أفعى حديدية طويلة تسير إلى الأبد، وهذا ما ألهم المخرج الكوري الجنوبي المميز بونج جون هو، فأخرج فيلم محطم الثلج (snowpiercer) عام 2013، ومن بعده ألهمت الرواية كل من سام ميلر وهيلين شافر فأخرجا مسلسل "قطار الحياة" بثلاثة أجزاء حتى الآن.

قد تبدو الفكرة للوهلة الأولى صورة مقلدة عن سفينة النبي نوح، كحال فيلم (2012)، لكن التفاصيل التي تتخللها تجعلها أبعد عن هذه التهمة، إذ يبرز الشر كغريزة مسيطرة في طبيعة الإنسان، وخصوصاً حين يحول شح الموارد الأمر إلى صراع بقاء لا تؤثر في إدارته قيم الحضارة السالفة، فمحدودية الموارد كانت تعني بالنسبة لإنسان الدرجة الأولى أن تتأثر نوعية حياته الفارهة، فهو يأكل ويشرب ويتعلم ويُعالَج ويرقص ويلهو ويسكن في مقصورات فارهة، بينما يتكوم أناس الذيل (الطبقة الدنيا) المعزولون فوق بعضهم، وبعد أن أكلوا الأضعف والأصغر سناً منهم صار يُقدم لهم وجبة بروتينية من مسحوق الحشرات.

هذه التراتبية أفرزت نظاماً طبقياً وحشياً يرأسه كبير المهندسين في القطار وتؤيده الفئة المنتفعة، فأفرط في العقاب واستغل الأطفال وقتلهم، وسوغ لنفسه استعباد الأفقر والأضعف، ومن هنا تصبح الثورة ضرورة، وبينما تكون مُدارة بشكل سري من قبل مهندس القطار ويقودها أحد سكان الذيل، وهو تائب من آكلي لحوم البشر السابقين، فيُقتل غالبية رفاقه أثناءها في الفيلم الكوري، تكون عفوية ويقودها شرطي سابق ومقاوم لآكلي لحوم البشر في المسلسل الأميركي، ويؤازره جملة من الأبطال ومنهم من ينقلب عليه ومنهم من يبقى معه للنهاية، ويفصل المسلسل في كثير من العلاقات الإنسانية كالحب والكره، والوفاء والخيانة، والرغبة والواجب، ويلتبس في أحداثه الفاصل الدقيق بين الخير والشر؛ أولاً في التزاحم بين فكرة الحفاظ على بقية البشر وتبرير كل شيء مهما كان وحشياً في سبيل ذلك وبين فكرة المطالبة بالمساواة وأولوية كرامة الإنسان على نجاته، وثانياً في تشخيص الأبطال كمتنازعين على السلطة.

فلسفة النجاة أو غريزة البقاء لا تتناقض بين العملين على الرغم من تناقض أفعال الأبطال، ففي حين يضحي بطل الفيلم بحياة رفاقه من أجل انتصار ثورته التي تكون في السنة السابعة عشرة لانطلاق القطار، فإن بطل المسلسل يضحي من أجلهم في ثورته التي تنطلق في السنة السابعة لانطلاق القطار، وقد يبرر الفاصل الزمني ذلك، فبعد سبعة عشر عاماً تستشري الغريزة الحرة المجردة من إنسانيتها للحد الأقصى، وتراكم المعاناة يذكي دافع الانتقام، لكن البطلين يختاران في النهاية فتح باب القطار أمام البقية الناجية، فيفجر باب القطار في الفيلم وينجو صبي وفتاة ويظهر في الأفق دب قطبي في إشارة لانبعاث الحياة وبداية جديدة للإنسان، إلا أن نهاية الجزء الثالث من المسلسل ركزت على عدة أمور منها الصراع بين العلم والحدس، بين الاحتمال الإحصائي والأمل، فحين توحي الدراسات لنسبة وجود منطقة قابلة للحياة في القرن الأفريقي الذي تقود إليه سكة حديدية مهترئة ينقسم الركاب ما بين مؤيد ومعارض للمجازفة، وهنا تبرز فكرة اللاعنف إذ يتفق سكان القطار على تقسيمه لجزئين بعد أن كانوا على وشك الالتحام في قتال دامٍ، فيذهب كل فريق باتجاه، وفكرة القرن الأفريقي نفسها التفاتة ذكية إلى نظرية الهجرة الأفريقية التي تقول بعبور الإنسان الأول من القرن الأفريقي عبر مضيق باب المندب الذي كان ضيقاً ومتجمداً في الشتاء، ومنه عبر إلى كل العالم، في إشارة إلى بداية جديدة ومكررة للجنس البشري.

النجاح في البقاء على قيد الحياة لا يعني النجاة بالضرورة، والتحضر لا يعني خلاص الإنسان من وحشيته الدفينة وميله للتطرف، والعلم المجرد يقود إلى الواقعية، والواقعية تعني الركون، والركون مضاد الحركة فهو مضاد للحياة، والحدس سلاح الإنسان في الظرف الذي تغيب فيه الإنسانية، وخير دليل على الإنسان الخيّر هي قدرته على التضحية حين يكون بمقدوره النجاة. كل ذلك يُقرأ في طيات العمل الرائع (قطار الحياة)، الذي يستند في طرحه إلى أسس فكرية وعلمية وتاريخية وهذا ما يشعل فتيل الإثارة والتأثير، الأمر الذي يبعد كل البعد عن المنتج المرئي العربي مع كل الأسف.