اتصلت بصديق كردي خطّاط، ودّع الحجاج بخطّه ورحب بهم، ورسم كل آرام (جمع إرم وبالعامية آرمة) متاجر عامودا، فنعاها وأخبرني بأنَّ الإدارة الذاتية - وهي غير ذاتية فثمة من يديرها - طمستها طمسًا، وكتبتها جميعها بحرف القس الكاثوليكي الإيطالي موريتزيو غارتزوني وخلفيه الميجر سوان والميجر نويل. سألته إن كان يحتفظ بشيء من لوحاته، فضرب كفيه ببعضهما، لقد سفكت كل الذكريات، شيء جرى مثله للأتراك قبل مئة وعشرين سنة.
يرى الباحث الكردي فرهاد شاكلي المدرّس في جامعة أوبسالا أنَّ جلادت بدرخان وأخاه كاميران عميلان إمبرياليان، وأنَّ الإمبريالية مزّقت باللاتينية الكرد لغويًا كما مزقتهم سياسيًا، ويعرض براهينه واحدًا واحدًا، وهي قلة الكاتبين باللاتينية وقلة قرائها وحداثتها وطفرتها وعدم وجود قاعدة للكرمانجية اللاتينية، فهي تكتب بثلاث صيغ، ويرى أنها مؤامرة لقطع الكردي عن جذوره الإسلامية والشرقية، وأن الكردي لا يقتل أباه لكنه ها هو ذا يقتله أسوة بالغربي، ونفي معرفي للكرد، أسوة بأتاتورك الذي جعل الترك يفيقون ذات ليلة ليجدوا أنفسهم على الأرض عراة، من غير أمجاد وأسلاف وهم الذين حكموا العالم ستة قرون ونصفَ قرن، بوصفهم قطباً أوحد، آدمهم هو أتاتورك، أبو الشعب التركي.
الكتابة باللاتينية محت كل الذخائر الكردية بدعوى الحداثة والرقي والتقدم، سوى أن للحرف العربي جماليات ليست في اللاتينية
ويتّهِمُ الباحثُ الأخوين بدرخان بأنهما حاولا التعويض عن فقدان إمارتهما الكردية بولاية ثقافية، ويدحض تهمة مناسبة اللاتينية للصوتيات الكردية، واللاتينية ستة وعشرون حرفًا، والعربية ثمانية وعشرون، فهي تزيد اللاتينية بحرفين، وهذه سعة أخرى. وقد طوّعت السورانية الحروف العربية، فنقّطتها وشكّلتها وكتبت بها، من غير تبكيت أو تثريب، والحرف العربي قريب وسهل وجميل، ولا خلاف على قواعد الكتابة كما خلاف الكرمانج. ويعرض قرينة مهمة، وهي أنَّ الكتابة باللاتينية محت كل الذخائر الكردية بدعوى الحداثة والرقي والتقدم، سوى أن للحرف العربي جماليات ليست في اللاتينية. فالحرف العربي رسم، واللاتيني رمز، وليس الرمز كالرسم.
لا يخالف سليم بركات المقيم في السويد أيضًا فرهاد شكالي، بل هو أشدُّ منه وأقسى، فهو يعتبر اللغة الكردية غير كافية سوى لعدّ دجاجات أمه، ولفّ سيكارة أبيه، كان شكالي يقارن بين الحرفين، بينما يقارن بركات بين لغتين، وسأستعين بأولى روايته فقهاء الظلام وأهمّها وأمّها، فهي نموذج تفسيري- والمصلح لعبد الوهاب المسيري- في فهم الشخصية الكردية الكرمانجية التي مثالها وميزانها شخوص رواية فقهاء الظلام.
لايزال الكردي الكرمانجي كردي روج آفا يكتب بالعربية منشوراته في فيس بوك والصحف، وليس بالحرف العربي، فثقافته عربية وذاكرته عربية إسلامية، ليس للكرد ذاكرة غير إسلامية، قد يجد شخصية أسطورية غابرة بعيدة مثل كاوا. وهو يعرف اللاتينية ويستطيع الكتابة بها لكنه يميل إلى العربية، أحيانًا يزيّن عنوان منشوره باللاتينية، قلة تكتب باللغتين لمخاطبة الجمهور نفسه، هذه القلّة تستعلي كما يفعل اللبناني الفينيقي الذي ينقش كلامه بالكلمات اللاتينية.
قبل سنوات كتب كاتب كردي معروف مقالًا في مجلة عربية سيّارة هي العربي، واستشهد بقصيدة كردية مغنّاة اسمها غزال، فكتب صاحبنا لفظ غزال بالحرف اللاتيني، وكأنه يخشى أن يلتبس على القارئ الكردي الأمر، ويظنَّ الغزال زرافة أو ناقة!
فقهاء الظلام هم "فكهاء" ظلام أيضًا.
الكرمانجي السوري لا يحسن الحوار، فهو غضوب وهائج وكثير الشّتم إذا ما دُحضت حجته، بسبب الطفرة السياسية. الكردي العراقي أحكم وأحلم، وأسبق خبرة وعلمًا، لقد بلغ ما بلغه من واقع سياسي خطوة خطوة وليس وثبا، وفي كردستان العراق أحزاب ديمقراطية لا تجدها عند السوريين الكرد ليس لديهم طفرة بيكاس.
إذا زرتَ القامشلي ستجد تجسيد نظرية أينشتاين وفقهاء الظلام في علوم الإدارة وفن العمارة، سترى أجمل المقابر على الإطلاق. الأموات سعداء في قبور مزينة مصفوفة أما الأحياء فيتحسرون على الحاجات الأساسية.
كتب كاتب كردي أولى رواياته بالكردية اللاتينية، سنسميه نجيب محفوظ الكرد، وهي سيرة ذاتية، فيها تهويمات وشطحات وحكايات جنسية، فوجد الجمهور الكردي والنخب الكردية تعامله معاملة العرب لنجيب محفوظ سيد الرواية العربية! وشخص آخر زعم أنه شاعر، هو محمود درويش الكرد، يكتب قصيدة النثر بهندسة أنسي الحاج والماغوط وليس في الكردية الكرمانجية نثر!
لعلم القارئ:
بيكاس هو بطل رواية فقهاء الظلام، يولد ويتزوج ويشيب وينجب ويصير جدًا في أسبوع، أقارب بيكاس هائجون، يرتكبون الفظائع، يبنون الأسوار عفدي ساري يدفن نفسه في تابوت.
لا أعرف ما هي ترجمة التسارع في الكردية ولا الثقالة ولا الجاذبية ولا ترجمات القطع والمحرق والمحيط والقطر والمماس والتوازي وتوتر الخيط والتردد، وهم في كردستان العراق لا يجدون لها معادلات كردية فيترجمونها كما هي: جيرافيتي واكسلارييشن وسنتر. وهذه مصطلحات في علوم التجريد وليس في علوم الفلسفة، فلغة الفلسفة أصعب ويستحيل كتابة الفلسفة باللغة الكردية. أحيانًا أجد مثقفين كردا على الفضائيات يتحدثون عن ديروك أي التاريخ وهو لفظ من الدوران العربية والفلك؛ والفلك استدارة السماء، صار الزمان عند الكرد، أول لفظ في النشيد الكردي: أي رقيب. فلمَ كتابة ألفاظ عربية بحروف موريتزيو غارتزوني؟
الكرد تحت حكم الإدارة الذاتية يتعلمون باللغة الكردية التي وُضعت مناهجها على عجل وهي غير معترف بها
انطلق أمس مهرجان حوار كردي، افتتحه رجل من قنديل يرتدي زيًا عسكريًا، بيكاس عسكريٌ وجد نفسه جنرالًا من غير أي كلية عسكرية، وأذنَ بانطلاق الحوار، وكأنه معركة، وهو بتمويل من مؤسسات غربية، فالحوار يحتاج إلى مال وشاشات وعلوم من علوم البثّ والطاولات والكراسي، مهما كانت توصيات الحوار والثمار، ستصدر كتبٌ ومنشورات عن الحوار وصورٌ ولقطاتٌ تذكارية، مثل المؤتمرات العربية، ولن يستطيعوا الاتحاد مع الشقيق الكبير في كردستان العراق، بسبب الحرف اللاتيني العازل بين الشقيقين. وقد أكثر عساكر قنديل، حكام الإدارة الذاتية من الحواجز بين الجيران، فالترك أعداء والعرب ليسوا أصدقاء.
الكرد تحت حكم الإدارة الذاتية يتعلمون باللغة الكردية التي وُضعت مناهجها على عجل وهي غير معترف بها، لن يستطيع الكرمانجي إكمال دراسته الجامعية في كردستان العراق ولا في غيرها، ومدرسو الطلاب معلمون وكلاء، بعضهم حاصل على الابتدائية أو البكالوريا إنهم "المفكرون" الذين يبنون مستقبل مدينة الإدارة الذاتية الفاضلة.
أمس احتفل الكرد بذكرى الشاعر الكردي أحمد الخاني، وهو كاتب ومتصوف كردي ورائد وملّا، وصاحب قصيدة ممو زين الشهيرة كتبها بالكردية والحرف العربي، يقول فرهاد شكالي إنَّ ذاكرة الكرد كتبها شيوخ وأئمة ومتصوفة ليس بينهم خواجة واحد وهذا لا يناسب الفكر الماركسي الستاليني اللاتيني المستغرب الوافد، وقد احتفوا به ونسبوا له فكرًا قوميًا، وطمسوا دينه وإيمانه طمسا، وذكروا بعضًا من أشعاره فكتبوها بالحرف العربي ثم ترجموها إلى الحرف اللاتيني.
لأمين معلوف كتاب عنوانه الهويات القاتلة، لكن لم يخطر له قط أن يكتب عن هوية منتحرة.