كان من الممكن أن يموت عيسى الخليل بضربة شمس قبل أكثر من ثلاثين سنة، وهو الذي أدمن الدوران في أحياء مدينته في ريف دمشق باحثاً في عقله الباطني عن أسباب الهزائم الشخصية والوطنية التي صنعت منه مجنوناً في نظر أهله قبل أن يصبح الجنون ملازماً لحالته في جميع أرجاء المدينة، ولكنه نجا من كل محاولات الموت المفاجئ والعادي إلى أن انتهى وحيداً في غرفته الباردة منذ يومين، والسبب كما قيل (مات عيسى الخليل متجمداً بلا غطاء أو مدفأة).. وهذه أيضاً هزيمة جديدة تضاف إلى نقائص هذه البلاد التي تطحن عقلائها ومجانينها.
عيسى الخليل أستاذ المرحلة الابتدائية لأجيال من طلاب الجولان المحتل الذين ولدوا في ريف دمشق، وفي نفس الوقت طالب الفلسفة في جامعة دمشق أوائل الثمانينيات حيث استعر الجدل في مجتمع تذهب به السلطة الحاكمة إلى العسكرة وقمع الحريات، وتزدهر فيه أسئلة الرفض والأحزاب المعارضة السرية، ويمسك فيه جيل من السوريين بما بقي من آمال التغيير والحلم ببلاد على وزن قصيدة نثر، وأما البعثيون فيرون أنهم قطعوا الشوط الأكبر من إحكام قبضتهم على السلطة، ولهذا تم استباحة كل ما يمكن أن يعترض مسار الصعود إلى القمة حتى أولئك الذين يثرثرون عن الحرية دون قوة، وهنا انفلت عقل عيسى الخليل من رأسه وصارت الشوارع هي المتنفس الوحيد عن الغضب فدخل الشاب الحالم في فصامه حتى إعلان موته متجمداً في وحدته.
تقدم عيسى في العمر سريعاً عكس أقرانه الذين احتفظوا بشعرهم الأسود ومواظبتهم على اجتماعات الفرقة الحزبية
حالة الفصام الحادة التي عاشها عيسى الخليل لم تتمكن أدوية الطب النفسي من إيقاف حدتها وعدوانيتها المفرطة أحياناً تجاه بعض الأشخاص، ولكن لحظات هدوء كبيرة كانت تنتاب الرجل في مواجهة أشخاص بعينهم، وهذا ما كان يعكس جذوة أحلامه وخيباته الكبرى، وأما الهيجان الكبير فهو عندما تذكر أمامه مفردات العبودية والعسكر حينذاك كان يصعد إلى أقرب سطح منزل ويبدأ بخطابه الفلسفي عن أسباب الهزيمة وضياع الجولان كوطن، وعن العبيد الذين ساهموا في ضياعه، وربما يرمي من يكرههم بالحجارة التي تصل إلى يده، ومن ثم يهبط كما لو أن شيئاً لم يكن بوجهه الأسمر وشعره الأبيض الذي صار هكذا فجأة.. لقد تقدم عيسى في العمر سريعاً عكس أقرانه الذين احتفظوا بشعرهم الأسود ومواظبتهم على اجتماعات الفرقة الحزبية.
موت عيسى الخليل متجمداً في غرفته الباردة قد لا يكون خبراً غريباً في زمن موت السوريين الكبير، وخصوصاً بعد موجة الشتاء العاصف التي انتزعت أرواح الأطفال في المخيمات، ولكن فرادته تأتي من أمرين أولهما أن عيسى امتداد لخيبات عمرها منذ أن بات البعث سيداً للبلاد، وثانيهما أنه عاش النزوح وشقاءه وفظائعه ونظرات المجتمع الجديد ومن ثم هيمنة الاستبداد الذي كان سبب ضياع وطنه الصغير قبل أن يشهد على ضياع الوطن بكامله الآن.. كما لو أن موت عيسى يصلح نصباً تذكارياً لموت الحالمين الأشقياء.
مات وحيداً وغريباً دون غطاء أومدفأة كي يقول لنا حكمته عن الحياة التي تموت في تلك البلاد البائسة
لم يتزوج عيسى الخليل إنما يروي بعض الأصدقاء أنه عاش قصة حب مع فتاة دمشقية لكن أهلها رفضوه لأنه نازح وأسمر وخشية من اختلاط الأنساب وربما الخانات (إحدى إثباتات النسب والأصل لدى المجتمع الشامي)، وأن تلك الحادثة ألقت بظلالها على حياته الداخلية، وساهمت في فصامه النفسي فهو ابن بار للهزيمة بكل أشكالها، هزيمة المكان والزمان والنسب واللون والأحلام، ولهذا كان على عيسى الخليل أن يموت بضربة شمس أو دهساً بسيارة عابرة فهو يقطع الطريق متى شاء، أو أن يسقط من فوق سطح أحد البيوت التي كان منبراً لخطاباته عن العبودية والعسكر، ولكنه مات وحيداً وغريباً دون غطاء أومدفأة كي يقول لنا حكمته عن الحياة التي تموت في تلك البلاد البائسة.