قبل سنوات تنبّأ "الساروت" بموتهِ، كان ذلك أواخر العام 2014، أي بعد خروجه مِن مسقطِ رأسه وعاصمة الثورة السورية (حمص)، التي قضى فيها سنوات ثورته الأولى مِن قيادة المظاهرات والغناء فيها، إلى قيادة العمل المسلّح، عقب استخدام "نظام الأسد" كافة آلات القتل لـ قمع الثورة.
كان التنبّؤ بموتهِ حينها، عبر صورة نشرها أصدقاؤه على مواقع التواصل الاجتماعي، تظهره (شهيداً) مسجّى على الأرض يلتحفه الكفن، قبل أن يخرج في مقطعٍ مصوّر يعتذر عن تلك الصورة المنتشرة على مواقع - لا يملك فيها أي حسابٍ شخصي -، موضّحاً أنها كانت "مزحة" ضمن سهرة أصدقاء وتفاجأ بنشرها.
اعتذر "الساروت" بشدّة عن تلك الصورة التي نُشرت - دون علمه -، كي لا يفهم الناس مِن اعتذاره "أن الساروت ذو شأنٍ كبير" - ولكنه كان كذلك حقّاً -، وأكّد أن اعتذاره جاء تبياناً للناس فقط، بأن هناك صفحات تسيء للفصائل والمقاتلين والثّوار والثورة باسم "عبد الباسط"، وهو الذي لا يملك أي حساب في تلك المواقع.
حينها، طالب "الساروت" ابن حي البياضة الحمصي، بأن يحزن الناس على شهداء الثورة السورية دون الحزن على "عبد الباسط"، لأن "عبد الباسط صنعه الناس وأولئك الشهداء"، وأن كثيرين ممن رحلوا أفضل من عبد الباسط مشدّداً على أن "الثورة لن تقف على الساروت وغيره".
لعب دور الموت مِراراً ولم يهبه أبداً، كان صديق دربه في كل معاركه التي خاضها طوال ثماني سنوات ضد"نظام الأسد"
"عبد الباسط" الذي عرفته الثورة وهو ابن 19 ربيعاً، لعب مع الموت مِراراً ولم يهبه أبداً، كان صديق دربه في كل معاركه التي خاضها طوال ثماني سنوات ضد "نظام الأسد"، تعرّض خلالها لـ عشرات الإصابات، ونجا مِن لعبة الموت دائماً، عقب كل شائعة تؤكّد نبأ استشهاده، الذي أتقنه أخيراً وبات حقيقة لا يمكن نفيها أبداً وإن أرادت الثورة.
نعم لقد فُجعت الثورة السورية وتأكّد النبأ الحقيقي باستشهاد "الساروت"، ظهر أمس السبت، بعد سنوات مِن الكفاح والقتال والتظاهر والخذلان والخسارات والانتصارات والتهجير والشتات عاشها وعايشها الفتى، الذي قضى متأثراً بإصابةٍ بالغة تعرّض لها في معاركه مع "نظام الأسد" وحلفائه بريف حماة.
انتشرت الصورة الحقيقية التي ملأت جدران مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات الأخبار، لـ تزف نبأ استشهاد حارس الثورة السورية وبلبلها، ولكني كـ كثيرين مِن السوريين بتنا نقلّب صفحات تلك المواقع أملا بأن يخرج "الساروت" مجدّداً لـ يعتذر عن الخبر ويؤكّد مرة أخرى، أنه على قيد الحياة وسيقاتل "نظام الأسد" حتى آخر قطرة دم، ولكن الأمر أصبح حقيقة فعلاً، وفقدت الثورة أحد أبرز رموزها، وبالطريقة التي أرادها وأقسم عليها، حتى آخر قطرة دم.
وأظهرت الصورة، الفتى الأسمر النحيل الذي لم يخلُ موضع شبرٍ من جسدهِ إلّا وفيه أثر رصاصة معركة أو شظية قصف، لقد فارق "الساروت" حياته شهيداً في المعارك لا على فراشهِ، وحُمِل على أكتافِ آلافِ السوريين إلى مثواه الأخير، تاركاً خلفه أمّه (الخنساء) التي فقدته مع أبيه وخمسةٍ مِن إخوته، فلا نامت أعين الجبناء.
ما لم يعلمه ابن عاصمة الثورة قبل رحيله المفجع، أن الثائرين السوريين أجمعوا على حب الفتى الأكثر شعبية في الثورة، وأن استشهاده أدمى قلوبهم ونكأ جراح مَن سبقوه مِن رموز، وأن مواقع التواصل الاجتماعي التي لم يملك فيها حساباً، باتت كلّ جدرانها خيمة عزاء له، عبرها يبكون فقدانهِ، ويتداولون أناشيده، لـ تذكير بعضهم البعض بالوطن الذي كان جنة الساروت، وبأحلام الشهادة التي أرادها فداء له.
لم يرَ "الساروت" بعينه تلك الجموع الغفيرة التي قدِمت مِن كل حدبٍ وصوب لـ تشييع جثمانه، لم يعلم أنَّ سيرته تعدّت حدود الثورة السورية وثورات الربيع العربي، وباتت كل بقاع الأرض تعرفهُ وتتناقل – بحزن - نبأ استشهاده، ولكنه يعلم جيداً أن صوته وأهازيجه وأناشيده وعباراته ستبقى مخلّدة في ذاكرة السوريين.
"الساروت" الذي ظلّ كـ غيره مِن الثائرين في حمص، مقاوماً لكل آلات القتل الفتّاكة التي استخدمها "نظام الأسد"، بقي يحارب مع بندقيته بـ صوته، لـ حين دخلت أحياء حمص الثائرة في حصار خانق، فقد "الساروت" مِن أجل فكّه، أبيه وأربعة مِن أشقائه وثلاثة مِن أخواله، واضطر حينها إلى حنثِ قسمه ألماً بأن لا يخرج مِن حمص، كما ردّد في إحدى أناشيده (ما أطلع منك يا حمص لو هالروح تروح)، ولكن أخرجه القهر على ضحايا الحصار والجوع، وعدم قدرته على فكِ الحصار عنهم وفتح طريق لهم – اذبحوني وافتحوا طريق للعالم -، لـ يحقّق الشهادة في حماة، التي سبق وطلب منها السماح "يا حماة سامحينا، والله حقك علينا"، وافياً بحقّها عليه، دون أن يدري بأن له حق في كل بقعةٍ سورية.
عاش "الساروت" الكثير مِن قسوة الفقدان خلال سنين الثورة، فقدَ أباه، إخوته،أحبته، أصدقاءه، مقاتليه، وهو الذي دخل عهد المواجهة المسلّحة "مضطراً"، دفاعاً عن ثورته التي صدحت بالحرية، ومن ثم الدفاع عن مدينته، التي استباحها "نظام الأسد" كاملةً، وأمطرتها طائراته بالصواريخ والبراميل المتفجرة ، وارتكبت فيها عشرات المجازر.
لم يتخاذل - وقد تعرّض للخذلان مِن القريب والبعيد -، لم يغادر - وقد غادر الكثيرون -، لم يتنازل - وقد تنازل الكثير -، لم يفقد إيمانه ولو مقدار ذرّة بثورته، انكسر مِراراً ولكنه وفي كل مرة ينتفض كالعنقاء مِن قلب الرماد، سيبقى صمود هذا الشاب درساً لِمن أراد النهوض مجدّداً مِن بين الجراح والمآسي، فقد رحل وكانت آخر وصاياه (سوريا ظلّي واقفة).
نعم لقد استشهد الفتى، الذي انتقل مِن ملاعب كرة القدم، لـ يصبح أيقونة المظاهرات والاعتصامات السلمية في ساحات حمص وسوريا، ناقلاً آلام الثائرين عبر خطابات وأغان صدح بها بصوته العذب، استشهد الحارس الأمين الذي بذل كل ما يستطيع، وتحدّى كل المنعطفات والانكسارات، وتحمّل الكثير مِن التهم والتخوين، ولكنه بقي قلب الثورة النابض وصوتها الذي ما زال يحاكي واقع ثورة السوريين.