ما يزال الشارع في مدينة الباب يشهد منذ أيام، انتفاضةً بروح ثورية جديدة تعيد للأذهان ثورة آذار 2011، ولكن للأسف ليست ضد "نظام الأسد" لوحدهِ هذه المرّة، إنما أيضاً ضد مَن سمحوا لأنفسهم أن يكونوا نُسخاً مطابقة تماماً لـ"النظام" في الفساد والمحسوبيات والتجاوزات، وإن كان "النظام" لا يجاريه أحد في الفساد والاستبداد والإجرام.
قبل أيام وتحديداً يوم الجمعة (22 آذار) انتفضت مدينة الباب احتجاجاً على فسادِ مؤسساتها العسكرية والمدنيّة التي تتحكم بها الفصائل - المنقسمة على ذاتها داخل كيانٍ يُفترض أن يكون واحداً ألا وهو (الجيش الوطني) -، انتفضت ضد الأجهزة الأمنيّة التي بلغ الفساد فيها ذروته، لدرجة أن المجرم يخرج منها بأدواتهِ "الإجرامية" – وإن كانت مخدّرات -، ويُعتقل مَن سعى لوضعٍ حدٍّ لأولئك المجرمين.
فالانتفاضة التي تحوّلت فيما بعد إلى عصيان مدني، اشتعلت نيرانها بعد اعتقال الشرطة العسكرية لـ مجموعة أمنيّة ألقت القبض على "عصابة مخدّرات" يتزعمها المدعو "زياد نقشبندي" - قيادي في "فرقة السلطان مراد" -، ولكن الحادثة الأخيرة لم تكن إلّا شرارة أراد منها ثوّار المدينة مِن مقيمين ونازحين ومهجّرين، بعث النار الخامدة - طيلة عامين مِن الصبر - تحت رماد الفساد الذي تراكم داخل المؤسسات التي تدير المدينة، وبات ينخر بمسؤوليها حتى النخاع، برعاية قادة الفصائل المتنفّذة في المنطقة.
وسبق الانتفاضة تلك، العديد مِن الاحتجاجات المتعلقة بانعدام الخدمات الأساسية وارتفاع الأسعار وازدياد معدّل البطالة، في مساعٍ مِن الثوّار للحصول على جواب لسؤال واحد ماذا فعلت تلك المؤسسات التي فرضت نفسها على المدينة منذ تحريرها مِن تنظيم "داعش" قبل عامين؟، ولكن بماذا ستجيب تلك المؤسسات وقد ترجمت جوابها المعروف وهو - لا شيء -، عبر محاولة قمع المتظاهرين وإسكات صوتهم قسراً، مستعينةً بأذرعها الأمنيّة.
السلطة للشعب
السلطة للشعب.. كان الشعار الأبرز الذي اختارته مدينة الباب لـ مظاهراتها وحراكها السلمي ضد الفوضى والفساد المستشري في المؤسسات الأمنية، وبعد العديد مِن الانتهاكات والتجاوزات التي مارستها الفصائل العسكرية في الباب وفي عموم المدن والبلدات شمال وشرق حلب، التي باتت تُعرف بمنطقة "درع الفرات".
أراد الثوّار مِن شعارهم هذا، أن يحقّقوا ما خرجوا لأجله في ثورتهم الكبيرة المستمرة ضد "نظام الأسد" منذ ثماني سنوات، أن يكون لهذا الشعب كامل الأحقية في اختيار ممثليه، لا أن يُفرضوا عليه فرضاً، أن يختاروا ويعرفوا مسؤولي جميع المؤسسات المختصة بإدارة البلد، والمسؤولة عن تقديم الخدمات، وإعمار المدينة، ومحاسبة المجرم، وحجب الثقة عن الفاسد، وإنصاف المظلوم.
أرادوا أن يكون الشعب شريكاً في صنعِ القرار، أن يمنع تحكّم أي أقلية كانت (عائلية أو فصائلية أو عشائرية أو غيرها) في مفاصل المدينة، أو تقاسم النفوذ على مؤسساتها، أن يمنعوا استنساخ "أنظمة مصغّرة تشبه نظام الأسد" داخل المدينة، تبتعد عن الشعور بالواقع وتجهل حاجات الأهالي، ويقتصر جلّ اهتمامها على توسيع نفوذها وسلطانها وثرواتها على حساب الشعب، الذي ضحّى وما زال يضّحي لـ تكون المدينة أنموذجاً يحتذى في الحريات والعدالة الاجتماعية.
أرادوا أن لا تذهب تضحيات الشعب السوري الثائر - ككل - الذي قدّم مئات آلاف الضحايا ومئات آلاف آخرين ما زالوا يقبعون في سجون "نظام الأسد" منذ سنوات، مِن أجل أن ينال الشعب حريته وكرامته ويختار حاكمه وجميع مسؤوليه وفق انتخابات حرّة ونزيهة لم تعرفها سوريا منذ تسلّط "آل الأسد" على الحكم قبل خمسة عقود، وكان أكثر ما يحزّ بأنفسهم، أنهم اضطروا للثورة ضد مَن كانت الثورة الكبرى سبباً في تنصيبهم حين نادوا بمبادئها، إلّأ أنهم تنكّروا لتلك المبادئ، فتسلّطوا وعاثوا فساداً.
كان الحراك السلمي للمدينة - وما زال -، موجّهاً ضد الفصائل المتنفّذة التي سخّرت جميع المؤسسات العاملة في المدينة لـ منافعها ومصالحها الشخصية، وبسطت سطوتها عليها بما فيها القضاء - الذي ليس مستقلاً أبداً ولا نزيهاً إطلاقاً -، كان موجّهاً ضد تلك الفصائل التي أنشأت سجوناً خاصة بها لزج معارضيها ومَن يعارض مؤيّديها فيه، كـ "سجن حور كلس" الذي تديره "فرقة السلطان مراد" (المنضوية في الفيلق الثاني بالجيش الوطني) و"سجن المعصرة" الذي يديره "أبو علي سجّو" زعيم معبر "باب السلامة" الحدودي مع تركيا شمال حلب، ويشهد كلا السجنين - سيئي الصيت - وغيرهم ربما لـ فصائل أخرى، عمليات تعذيب لـ حدِّ الموت أو التصفية - حسب ناشطين -، وباتت أشبه بسجون ومعتقلات "نظام الأسد".
وكانت الانتفاضة موجّهةٌ أيضاً ضد أولئك القادة والمسؤولين الذين "استرخوا" هم ومَن يلوذ بهم على كراسي السلطة والنفوذ منذ عامين، معزِّزين نموَ مصالحهم ومصالح شركائهم، متغافلين عن الشعب المترامي خارج كراسي حكمهم، تحت وطأة الفلتان الأمني الذي شرعَ الباب واسعاً لـ حصول تفجيرات وتفخيخات - شبه يومية -، وسرقات واعتداءات وتسلّط فصائل على ممتلكات مدنيين بذرائع عدّة وخلق اشتباكات مع عائلات مِن المدينة، وهذا كلّه ناتج عن انشغال المسؤولين بمصالحهم، وضربهم بعرض الحائط مصالح الشعب.
أحد أبرز أسباب انتشار الفساد الكبير في منطقة "درع الفرات" هو غياب آلية المحاسبة عن المؤسسات
ولعل أحد أبرز أسباب انتشار الفساد الكبير في منطقة "درع الفرات"، هو غياب آلية المحاسبة عن المؤسسات، التي أٌقيمت بسطوة الفصائل العسكرية ونفوذها، مانعةً الشعب بالتدخل بانتخابِ مسؤوليها وفرض وصايته عليها ومراقبةِ سير أعمالها، فضلاً عن انتشار "المرتزقة" الذين تلثّموا بعلم الثورة وانخرطوا بها بغيةَ تشويهها وضربها من الداخل، وما انتفاضة الباب التي يرى ناشطو الثورة وجوب دعمها واستمراريتها، إلّا دفاعاً عن الثورة الكبرى وأهدافها وثوابتها.
والمحزن أيضاً، أنه كما فعل "نظام الأسد" بإطلاق كل أوصاف "العمالة، والخيانة" على الثوّار ومعارضيه، رغم أنها ماركةٌ مسجّلة باسمه واسم أبيه وعائلة "الأسد" كلّها، تجرّأت "الشرطة العسكرية في الجيش الوطني" أن تُطلق على المحتجّين والمتظاهرين في مدينة الباب بأنهم "أدعياء ثورة"، وأيضاً هذه الصفة يبدو أنها ماركةٌ مسجّلة باسمها وباسم جميع المتنفّذين الفاسدين المفسدين في الجيش الحر وعموم مؤسسات المعارضة.
ولكن شعب الثورة الذي عرّى "نظام الأسد" - وإن لم يُسقطه بعد، وإسقاطه قادم لا محالة -، والذي ما عادَ يخشى الموت، ووقف صامداً شامخاً أمام جبروت "نظام" قذرٍ استجلب كل مرتزقة الأرض لـ قتل الثورة وشعبها، لن يستكين أبداً ولن يهدأ إطلاقاً أمام الوجه الحقيقي مِن "أنصاف النظام" و"أدعياء الثورة".