ذات يوم سئل الكاتب الكولومبي الأشهر غابرييل غارسيا ماركيز في أحد حواراته عن عدم كتابته عن هموم شعبه، عن الفقر والاستبداد في بلاده، عن المشاكل الاجتماعية وتفشي المخدرات وتجارتها وما ينتج عنها، عن الحياة البائسة التي يعيشها الفلاحون والعمال في كولومبيا. كان رد ماركيز بالغ البساطة والعمق، قال بما معناه: "لا يمكنني أن أكتب عما لا أشعر به، مهما حاولت تقمص شخصية البائس لن يكون إحساسي بالبؤس حقيقيا، ثم لماذا سأنقل واقعا معاشا في كتابتي؟ الأفضل هو أن أكتب ما يجعل هؤلاء يتناسون بؤسهم لساعات وهم يقرؤون كتبي، يجب علي أن أسعدهم عبر الكتابة والفن طالما لست قادرا بها أن أغير شيئا من واقعهم".
عادت لي كلمات ماركيز مؤخرا وأنا أتابع ما يكتبه السوريون على صفحات التواصل الاجتماعي من نقد لا يرحم لمسلسل (ابتسم أيها الجنرال) ورغم أن المسلسل مازال في حلقاته الأولى لكن ثمة إحساس لدى هؤلاء بأنهم مخذولون، وأن المسلسل الذي انتظروه خيب آمالهم، ما جعل مخيلة الكثير منهم تنسج الكثير من الاتهامات لفريق العمل، وهو أمر، في الواقع، يتناسب مع سلوك السوريين في السنوات الأخيرة، حيث التخوين بات واحدا من أسهل الاتهامات وأكثرها رواجا، لا سيما لدى من هم في صف المعارضة (شخصيا لم أعد أرى في مصطلح الثورة أي معنى الآن طالما الجميع خارج سوريا). وهذه، في رأيي، واحدة من معضلات عدة ساهمت في ابتعاد كثر عن الخوض في أي شأن عام خشية التعرض للتخوين، ما أفقد العمل السياسي والعام المنتمي للثورة والتغيير الكثير من حيوية وديناميكية كان يمكنها أن تحدث فرقا ما في هذا الاختناق السوري.
بعد البدء بعرضه اتسعت رقعة المنتقدين، وتحول الأمر كما لو كان صناع المسلسل قد وعدوا السوريين بإسقاط النظام عبره، لكنهم لم يفعلوا ذلك حتى الآن
والحال، فإن المسلسل المذكور بدأ بالتعرض للنقد والتخوين قبل عرضه بكثير وبمجرد الإعلان عنه، وهو أمر غريب نوعا ما ويشير إلى التحزبات والتحالفات والانقسامات في جهة المعارضين، والآن بعد البدء بعرضه اتسعت رقعة المنتقدين، وتحول الأمر كما لو كان صناع المسلسل قد وعدوا السوريين بإسقاط النظام عبره، لكنهم لم يفعلوا ذلك حتى الآن، فاستحقوا كل هذا النقد والتقريع.
بداية، أنا لم أعجب بما رأيته حتى الآن من حلقات المسلسل، الإخراج بلا أي لمعة وثمة ضعف وجهل واضح بإدارة الممثلين، واختيار مؤدي الأدوار الثانوية، لم أعجب أيضا بإدارة اللوكيشن والإضاءة والديكور، بدا لي كما لو أن هناك شحا في الإنتاج، أما بخصوص السيناريو فمن الظلم الحكم عليه بناء علي الحلقات الأولى في مسلسل مؤلف من ثلاثين حلقة، لذلك أفضل عدم إبداء الرأي بهذا الخصوص إلى أن ينتهي المسلسل؛ لكن أيضا لم أستطع فهم ما قرأته خلال الأيام القليلة الماضية من الخذلان الذي أصيب به السوريون حين لم يجدوا ما يتوقعونه في الحلقات المعروضة حتى الآن! هل كان المعترضون مثلا يتوقعون أن يقوم المسلسل بتقديم شخوصه كما هي في الحقيقة؟ هل يجب أن يسمي الجنرال باسم بشار الأسد بدلا من فرات مثلا؟ وسامية باسم بشرى وهكذا؟ هل على المسلسل أن يقدم الحكاية السورية التي يعرفها القاصي والداني في سوريا وخارجها كما هي؟ أين ستكون القيمة الفنية للعمل لو حصل شيء كهذا؟ يعرف الجميع أن تقديم الواقع كما هو يحتاج إلى توثيق، إلى عمل وثائقي مدعم بمراجع ومستندات تمنع التلفيق، بينما الفن يقدم حكاية يمكن إسقاطها على الواقع إن شئنا؛ لذلك ليس من باب العبث وضع العبارة التالية في بداية بعض المسلسلات: "إن الشخصيات في هذا العمل هي من صنع الخيال وأي تشابه بينها وبين الواقع هو محض صدفة".
يتجاهل المعترضون أن أي شركة إنتاج محكومة بمجموعة من القوانين التي تضمن لها الحماية والربح؛ الحماية من القضاء في حال استهدف أحد أعمالها شخصية عامة سياسية أو فنية أو اقتصادية أو عسكرية الخ، مهما كانت جنسية تلك الشخصية ومهما كان تاريخها أو حاضرها، لا يمكن لشركة إنتاج أن تتبنى عملا فنيا يوثق سيرة شخصية لعائلة أو نظام دون أخذ الأذونات اللازمة لهذا من المعنيين أنفسهم؛ هل يتخيل أحد ما أن مسلسلا مثل (التاج) البريطاني مثلا، الذي أنتجته منصة نتفليكس ويوثق حياة العائلة المالكة تم إنتاجه وعرضه دون موافقة المخابرات البريطانية والأسرة المالكة على ذلك؟ هذه مسائل من البديهيات ويبدو من السذاجة أحيانا تجاهلها واتهام شركة إنتاج ما بالتآمر مع النظام لأنها قدمت عملا لا ينقل الواقع كما هو. كما هي الحال حين نظن أن شركات الإنتاج مؤسسة غير معنية بالأرباح وبالتالي لا يهمها إن بيع العمل أم لم يبع! لا تجري الأمور هكذا أيها السادة في عمل الإنتاج الدرامي ولا في شركات الإنتاج، ثمة سوق يحكم الأعمال الدرامية ولا يمكن لأي شركة الخروج عنه إن أرادت الاستمرار.
لا يمكن لنجومنا أن يفعلوا ذلك، ولا يمكن لغيرهم أن يفعل هذا؛ ليس فقط لأن شرط الإنتاج مختلف، بل لأن الفن يختلف عن الواقع
ما الذي جعل السوريين يشعرون بالخيبة إذا ويتهمون صناع العمل اتهامات غرائبية رغم أن أبطال العمل مواقفهم الثورية لا ينكرها أحد ودفعوا أثمانا باهظة بعد الثورة، منها توقفهم عن العمل لسنوات طويلة ورفض الكثير من شركات الإنتاج التعاون مع الكثير منهم، باستثناء ربما مكسيم خليل صاحب الموهبة والكاريزما الكبيرة التي لا يمكن تجاهلها من قبل شركات الإنتاج العربية. في رأيي أن حالنا نحن السوريين يشبه الغريق (المتعلق بجبال العرمط) كما نقول في السورية الدارجة، نحن نعرف أننا هزمنا وأنه لم يعد من بواك لنا، وأن كل ما حلمنا به ذهب مع الريح، خيباتنا كثيرة وخذلاناتنا أكثر وآمالنا اختفت، وكل التضحيات التي قدمناها وشبابنا الذين أصبحوا ترابا وبلادنا التي ضاعت وحاضرنا الأسود ومستقبلنا الغامض، كل القهر والحزن والأسى والخوف والموت الذي أصبنا به، كله كأنه كان من أجل لا شيء، وكله كما لو أنه كان لمصلحة نظام الأسد؛ هذا جعلنا نحمل ثقل خيبتنا الكبير الذي نحمله منذ سنوات ونلقيه على كاهل مسلسل درامي يقدم في رمضان، كما لو أن إعادة السيرة السورية كاملة كما حدثت يعيد لنا بعض حقنا المهدور؛ كما لو أننا نريد أن نعيد الحدث منذ بدايته عل شيئا ما يتغير، كما لو كنا نريد من المسلسل أن يوثق كل الجرائم والارتكابات لعل العالم يصدق أننا كنا على حق، كما لو أننا نريد أن يعيد المسلسل إظهار الثورة وأن تنتصر في نهاية المسلسل كي نتخفف قليلا من خذلاننا ونشعر بقليل من الأمل؛ كما لو أن صناع العمل المعارضين والثوريين يمكنهم في الحدث الدرامي اجتراح معجزة الانتصار الذي عجزوا عن تحقيقه في الواقع.
لكن الأمر ليس هكذا، لا يمكن لنجومنا أن يفعلوا ذلك، ولا يمكن لغيرهم أن يفعل هذا؛ ليس فقط لأن شرط الإنتاج مختلف، بل لأن الفن يختلف عن الواقع، لأن هدف الفن في أعمال درامية متسلسلة هو تقديم متعة بصرية وعقلية ونفسية مسلية ومشوقة؛ لا يمكن التعويل على أي عمل درامي بأكثر من ذلك. هل حقق مسلسل ابتسم أيها الجنرال (الذي يطلق عليه السوريون في قلب سوريا "هداك المسلسل") هذه المتعة؟ حتى الحلقة الخامسة يبدو أنه لم يحالفه النجاح في هذا؛ نأمل ألا يستمر هذا طويلا وأن يخالف توقعات الراغبين بفشله ويعيد لمحبي نجومه بعض الأمل.