تجددت رسائل الوعيد والتهديدات من جانب إيران وميليشياتها في المنطقة، في ذكرى مقتل قائد فيلق القدس الإيراني بغارة أميركية بالقرب من مطار بغداد قبل عام ونيف، وبقيت كلها ضمن حيز التصريحات الكلامية من دون وجود أي تحرك انتقامي فعلي على الأرض، فلا تجد المواقع الإيرانية المقربة من الحرس الثوري الإيراني سبيلاً للتعبير عن مكنون الغضب والحزن الدفين من ردة الفعل الصفرية الإيرانية على مقتل سليماني سوى إجراء مقابلات صحفية مع عدد من قادة فيلق القدس والحرس الثوري والجيش الإيراني، ممن كانوا يشكلون الحلقة المقربة من سليماني وقادة لغرف العمليات العسكرية التي دارت رحاها على الأرض السورية خلال السنوات العشر الماضية.
في خضم ذلك، كانت الفرصة سانحة لرصد وتحليل هذه المقابلات الصحفية العديدة، التي تكشف لأول مرة عن معلومات مهمة وقيمة لا تسهم فقط في رفع مستوى وعينا وفهمنا لطبيعة النظام الإيراني، بل تقدم إسهاماً متواضعاً في إطار توثيق جرائم النظام الإيراني الذي بقي متشبثاً برواية "الاستشاريين العسكريين" في سوريا إلى وقت ليس ببعيد.
البدايات.. النظام يترنح للسقوط و"الجيش السوري" بلا جنود
الحقيقة التاريخية التي لا يمكن تغطيتها هي حقيقة حتمية سقوط النظام السوري في السنوات الأولى من الثورة السورية على يد الثوار السوريين. هذه الحقيقة لا ينكرها حتى الموالون للنظام السوري، فكيف بالإيرانيين الذين قدموا في سبيل حماية بشار أسد من السقوط، أفدح الأثمان العسكرية والمادية.
في مقابلة له مع وكالة أنباء تسنيم في 29 ديسمبر / كانون الأول 2020، يقول العميد محمود تشار باغي، قائد مدفعية الحرس الثوري الإيراني سابقاً، والذي قدم إلى سوريا بناء على طلب قاسم سليماني وحسين همداني: "رأيت كل شيء قد ضاع، الخراب منتشر في كل مكان، وإذا كنت تريد أن تذهب إلى حلب من الطريق الأساسي الذي لا يستغرق عشر دقائق، فعليك أن تقطع طريقاً ملتفاً مدته ساعة ونصف".
ويضيف باغي: "في عام 2012، طلب مني الحاج قاسم المجيء إلى سوريا، والنظر في مدفعية الجيش السوري، وأقدم تقريراً مفصلاً عنها.. كان مقر عملياتنا في مقام السيدة رقية في دمشق، حيث كان يوجد حسين همداني أيضاً. وبالفعل أعددت دراسة عن مدفعية الجيش السوري، ووجدت أن اختصاص المدفعية في الجيش السوري اختصاص جيد، لكن المشكلة كانت أن قسماً كبيراً من الجيش السوري انشق عنه وانضم إلى الجيش الحر".
ويكمل باغي حديثه قائلاً: "توجد مدافع وتوجد ذخائر، ولكن لا توجد قوات لدى الجيش السوري ليستخدمها. المنشقون عن الجيش السوري تركوا هذا الجيش من دون أخذ هذه المدافع معهم، بسبب صعوبة نقلها، ولكن في بعض الحالات استطاعوا أخذها معهم".
سياسة الأرض المحروقة للسيطرة على مناطق المعارضة لكن "بصعوبة"
كانت سياسة الأرض المحروقة هي السياسة الناجعة في أسلوب الحروب التي خاضتها ميليشيات قاسم سليماني في سوريا، فقد وفرت عليهم الكثير من القتلى والمصابين، الذين كان سليماني يحتاج إليهم بشدة للمضي قدماً في سياسة القضم ومحاصرة المناطق السورية الاستراتيجية، خاصة في مدينة حلب وأريافها.
ومن أجل تحقيق نجاح كامل لاستراتيجية السيطرة على المناطق من خلال النيران الكثيفة المركزة، كان يتم ربط جميع مرابض المدفعيات والصواريخ والهاون المنتشرة حول منطقة العمل، مع طائرات النظام والطائرات الروسية من مقاتلات ومروحيات، في غرفة عمليات واحدة يقودها ضباط الحرس الثوري.
كما تذكر المقابلة المصورة مع العميد محمود تشار باغي، فقد تم تشكيل كتيبتي مدفعية، مكونة من عناصر من الحرس الثوري، وبعض عناصر من ميليشيا "فاطميون"، وعدد من المتطوعين في دمشق في 30 تشرين الأول 2014، وقاموا بأخذ عدد من المدفعيات التي كان يمتلكها جيش النظام.
ويقول باغي: "في شتاء عام 2015، بدأنا عمليات عسكرية في جنوبي حلب، لفك الحصار عن مدينتي نبل الزهراء بناء على أوامر من السيد (يعني خامنئي)، الذي طلب من قاسم سليماني جلب ما يريد من القوات من إيران، لكن مع مراعاة ألا يقع بينهم الكثير من الشهداء والجرحى".
ويضيف باغي: "فكرت حينها في كيفية تقليل عدد المصابين والشهداء وقلت لسليماني: بدلاً من أن نخسر الكثير من الشهداء والمصابين يمكننا الاستفادة من حجم الذخائر والقذائف المدفعية من أجل السيطرة على المناطق. قم بوضع كل النيران تحت تصرفي، بما في ذلك، الطائرات والمروحيات والمدفعية والهاون، وأعدك يا حاج قاسم، أن أسيطر على العديد من المناطق من خلال النار (سياسة الأرض المحروقة). كان قاسم سليماني يتمتع بسلطة كبيرة، إلى درجة أنه في أي وقت نقول له لدينا نقص بالذخيرة، كان يتصل بوزير الدفاع السوري، ليرسل لنا ما ينقصنا من الذخائر. لم يكن هناك فرق بالنسبة للتوقيت، في الليل أو في منتصف الليل، أو الساعة 2 بالليل، أو في ساعات الصباح المكبر، لم يكن هناك أي فرق، كان يتصل ويجلب لنا ما نحتاج من الذخائر".
معركتا رتيان والعيس في حلب.. الطريق إلى نبل والزهراء والـ M5
ويؤكد باغي: "كنت في مركز غرفة العمليات أنسق جميع هذه النيران مع كل المناورات الجارية على الأرض. وفي ليلة بدء عمليات تحرير نبل والزهراء، أوقفتنا بعض الاشتباكات في قرية رتيان، التي كانت تشكل العائق الوحيد المتبقي نحو وصولنا إلى نبل والزهراء، وأعطيت الأوامر بفتح كل النيران من مرابض المدفعية والصورايخ المنتشرة حولنا كلها في وقت واحد نحو رتيان. رغم كل هذه القذائف التي ألقيناها، تم تحرير رتيان في النهاية، ولكن بصعوبة".
ويتابع العميد باغي حديثه عن سياسة الأرض المحروقة المتبعة في العمليات العسكرية التي انتهت في تشرين الثاني 2015، باستعادة قوات النظام المدعومة بالميليشيات الإيرانية السيطرة على تل العيس الاستراتيجية، التي تعتبر من أعلى المرتفعات الاستراتيجية في ريف حلب الجنوبي، وتشرف بشكل كامل على المناطق المحيطة به، بما في ذلك الأوتوستراد الدولي دمشق - حلب (M5). ويقول: "سألني سليماني هل يمكنك أن تأخذ تلة العيس بالنيران فقلت له نعم، وبالفعل، نظمت مخططاً جنونياً من النيران، وقمت بتوجيه كل مدفعياتنا وصواريخنا نحو تلة العيس، وتحدثت حينها إلى كل وحدات المدفعية وقلت لهم اضربوا تلة العيس ولا تتوقفوا عن الضرب حتى أعلمكم بذلك".
سليماني القائد العام للجيش السوري وكل شيء تم بعلم وتوجيهات المرشد الأعلي خامنئي
في مقابلة أخرى مع وكالة أنباء تسنيم بتاريخ 15 فبراير/ شباط 2020، يتحدث العميد نوعي أقدم، الذي قدم إلى سوريا بطلب من قاسم سليماني، وتولى قيادة ما يسمى "قاعدة زينب"، عن معلومات جديدة تكشف حجم تورط القيادات العليا في إيران، خاصة المرشد الأعلى، في جرائم الحرب التي ارتكبتها الميليشيات الإيرانية في سوريا.
ويقول العميد أقدم، الذي قاد العديد من العمليات العسكرية في العديد من مناطق سوريا، خاصة معارك دير العدس في المنطقة الجنوبية: "كانت مهمتي الرئيسية تتركز في الجنوب وبالقرب من مرتفعات الجولان، ولكني أديت العديد من المهمات خارج نطاق مهمتي الأساسية في أي مكان لزم التدخل".
ويتحدث العميد أقدم عن علاقة سليماني بضباط جيش النظام فيقول: "كان قادة الجيش السوري يثقون بقاسم سليماني ثقة مطلقة، وكان حضوره يعطيهم القوة".
الدفاع عن جبل زين العابدين في حماة
ويضيف: "في أحد الأيام وصلتنا رسالة من حماة تفيد أن المسلحين هاجموا جبل زين العابدين، وهي نقطة مهمة والسيطرة عليها يعني السيطرة على مدينة حماة، وكان العدو قد اقترب من الجبل لا يفصله عنه سوى 200 أو 300 متر. وذهبت إلى الجبل ووجدت قاسم سليماني قد سبقني إليه، في حين كان ضباط الجيش السوري يقفون (بكل تواضع وأدب وتفان) حول قاسم سليماني، وكانوا يراقبون كل تحركاته ليروا ماذا سيقول وما هو مخططه لصدر الهجوم".
وفي أثناء الاجتماع الذي ضم عدداً من الضباط والقادة العسكريين السوريين يقرر سليماني أن يبقى العميد أقدم مع قواته في الجبل لحمايته، فيعترض عليه أحد العمداء السوريين قائلاً له: "نحن نثق بك يا حاج قاسم ونثق بكلامك، لكن قل لنا ماذا يمكن أن يفعل أبو حسين (العميد أقدم) هنا؟".
حينها طلب قاسم سليماني من العميد أقدم أن يرد على العميد السوري داخل الاجتماع، فيقول أقدم: "من الآن فصاعداً، حماة هي طهران بالنسبة لي، فرد علينا ضباط الجيش السوري قائلين: هذا كاف بالنسبة لنا".
وفي نهاية المقابلة، يؤكد العميد أقدم على دور خامنئي وحجم تورطه في الجرائم التي ارتكبتها ميليشياته في سوريا، ويقول: "كان الحاج قاسم جندياً مطيعاً للمرشد الأعلى، وفي إحدى المرات قالها لي سليماني إنه لا يشرب الماء من دون إذن المرشد الأعلى. كل أوامر وقرارات قاسم سليماني صادرة من المرشد الأعلى، حتى أن القوات التي كان يريد قاسم سليماني أن ينقلها من إيران إلى سوريا لم تكن تتم لولا موافقة المرشد الأعلى".