التحول المفاجئ الذي طرأ على سياسات ومواقف عواصم مختلفة، عربية وإقليمية، ليس مفاجئاً تماماً، والعودة لجامعة الدول العربية لن تكون كذلك أيضاً، فالأسباب المعلنة صبيحة تجميد عضوية النظام في الجامعة لم تكن مقنعة في الأساس، البطش الذي قابل به الأسد معارضيه صدر عن عقلية بوليسية تحكم شعوب المنطقة برمتها، بل إن انتصار الأسد في معركته ضد الإرادة الشعبية كان رغبة كل النظم العربية ومطلب كل الثورات المضادة، ولكن قرار تجميد العضوية آنذاك كان خليطاً من النزول عند رغبة شارع عربي يغلي وفرصة عزيزة لتصفية حسابات قديمة على مائدة التراشق بين الاعتدال والمقاومة.
ولأن المشهد السوري لا يمكن اختزاله بملف اللاجئين والعودة الآمنة كما يجري الترويج له مؤخراً، لن يجد الأسد في قطار التطبيع طوق نجاة، لكن قطار التطبيع سيمضي بمن فيه نحو الهاوية. ذلك أن الملف السوري لم يعد قابلاً للإغلاق على المدى القريب، إنه كمون متجدد لأزمات داخلية وإقليمية غير منتهية، كما أن المنطقة بالأساس غير مستقرة، وعودة اللاجئين بحد ذاتها تحدٍ اقتصادي وأمني يصعب اجتيازه، وحتى لو بدا الأسد اليوم منتصراً لكنه بكل تأكيد أضعف بما لا يقارن مع ما كان عليه قبل الثورة، والتحديات أكثر تعقيداً بما لا يقارن أيضاً، وأما الحكم بالخوف فقد ذهب بلا رجعة، ليس على يد الأسد على أية حال.
مصالحة أم استسلام
في البيانات الصحفية الصادرة عن خارجية المملكة العربية السعودية عقب تبادل الزيارات على مستوى وزراء الخارجية، تلخيص وتأكيد، تلخيص لما تراه المملكة معالم أساسية لخارطة طريق التطبيع مع الأسد، وتأكيد على انزلاق المملكة نحو المزيد من السمعة السيئة في ملفي الحقوق وإدارة النزاعات.
وأما عن تفعيل عضوية سوريا في الجامعة العربية، فلا تزال جهود المملكة تصطدم ببعض الأصوات الرافضة، بيد أن المملكة قادرة بما لديها من موقع ودور وأدوات على تذليل الصعوبات أمام دخول بشار الأسد أبواب الجامعة العربية وطي صفحة قطيعة استمرت عشر سنوات ولا تزال أسبابها "المعلنة" مستمرة.
ربما لا يحظى هذا الحدث باهتمام الكثيرين، فالجامعة العربية لا تمتلك رصيداً معتبراً لدى غالبية جمهورها من شعوب المنطقة، ولكن في واقع الأمر من شأن هذا التطور أن يلقي بظلاله بشكل واضح على الموقف الدولي من نظام الأسد، حيث إن الأعراف الدبلوماسية تنظر لموقف الجامعة العربية بوصفه إجراءً سياسياً عاماً وفاعلاً، لا مجرد إعلان ذي طبيعة رمزية كالدعم الإنساني لمتضرري الزلزال.
التراجع الأميركي
لم يعد هذا التراجع حديثاً وتكهنات، بعد ما تسرب من وثائق سرية صادرة عن وكالة المخابرات الأميركية، وما أعقب التسريب من ظهور للسيد وليام بيرنز مدير الوكالة المذكورة مؤكداً أن أميركا قوية بأحلافها. ورغم أنه أراد بقوله هذا رد الاعتبار لحلفاء أميركا الذين شعروا بالإهانة نتيجة تعرضهم للتجسس من حليفهم الأميركي، لكن الرسالة التي جاءت بين السطور هي أن أميركا لم تعد الأقوى إلا بوصفها الأوسع حلفاً، إنها صيغة إقرار بتراجع النفوذ الأميركي العالمي.
وفي الحديث عن الحلفاء نرى الرئيس الفرنسي ماكرون مبتعداً نحو أقصى الشرق خاطباً ود الصين وصداقتها وصفقات تجارية بمئات المليارات، ونرى القوات التركية تقصف موكب زعيم ميليشيات قوات سوريا الديمقراطية رغم الحماية الأميركية للموكب، ونرى المملكة العربية السعودية تلتفت نحو الصين ناشدةً التقارب مع إيران، عدوها وعدو الولايات المتحدة الأميركية، ونرى مصر وتركيا والسعودية يهرولون صوب الانضمام لمجموعة بريكس المناوئة لمصالح الولايات المتحدة الأميركية.
في النظام العالمي الجديد جاري التشكل لم تعد الغلبة للمنتصر في الحرب العسكرية الكلاسيكية، بل إن لكل من الاقتصاد والغذاء والتكنولوجيا دوراً متقدماً وهو ما جعل النظام القطبي ينكفئ تدريجياً.
يجري هذا كله بينما لم تجد الإدارة الأميركية اليوم من واجب اتجاه تطورات الملف السوري سوى الإعلان عن تصعيد جديد يستهدف زعيم جماعة مسلحة في مناطق سيطرة المعارضة، بوصفها جماعة متشددة اختارت لنفسها اسم حراس الدين.
وفي الموقف من نظام الأسد، أظهرت إدارة بايدن موقفاً أقل صرامة في فرض عزلة عربية ودولية على دمشق، بالمقارنة مع الإدارة الأميركية السابقة، التي استطاعت عبر قانون قيصر تعطيل سكة إعادة الإعمار ووقف عمليات الدعم النقدي الكبيرة.
ومن المرجح أن ترحيباً من جامعة الدول العربية بعودة نظام الأسد سيجعل الموقف الأميركي أكثر ليونة ويضع مسارات جنيف وأستانا في مهب الريح، ليصبح المنطلق هو واقع انتصار الأسد على خصومه، ويبدأ الحديث عن مصالحة أهلية بعيدة عن ما تقرر حتى الآن من قرارات الأمم المتحدة وعلى رأسها القرار ٢٢٥٤.
صنع في الصين
من صنعاء إلى دمشق، تسير الرياض بخطوات مسرعة نحو طهران، بدافع من المصلحة ما لم يكن بدافع الثقة المتبادلة. وحيث بناء الثقة بحاجة –إلى جانب تقاطع المصالح_ إلى وقائع وضمانات، فإن من المبكر الحديث عن الكفاءة الدبلوماسية لبكين كضامن في حل النزاعات، رغم أن كفاءتها الاقتصادية المشهودة مصدر جذب وطمأنينة.
وبينما تجد المملكة في الصين طوق نجاة للخروج من حالة الاشتباك واستبدالها بواقع مستقر يدعم الاستثمار ويحمي طموحها في التنمية، فهي أيضاً على المدى البعيد ترى في الصين صمام أمان تعالج به مخاوفها من تراجع القدرة الأميركية واضطراب الدولار وسيطرة أجواء الحرب العالمية كما تلخصه البارجات في البحر الأحمر ومضيق باب المندب والمحيط الهادي ومياه المتوسط.
على الصعيد الآخر، تأمل طهران من الصين ما يتجاوز التبادل التجاري، إلى دعم استراتيجيتها في التوسع بالنفود مكان التراجع الأميركي والروسي في سوريا والمنطقة العربية، بوصفها قوة إقليمية قادرة على حفظ الهدوء، مستفيدة من وجودها إلى جانب روسيا والصين في خندق العقوبات الاقتصادية الغربية.
حيث كشفت مجلة بوليتيكو في عددها الصادر الأربعاء ١٢ أبريل/نيسان عن محادثات سرية تجريها إيران مع كل من روسيا والصين للحصول على مواد كيميائية خاضعة للعقوبات الغربية، تستخدم كوقود للصواريخ الباليستية، وهو ما سيضمن لنظام الملالي تطوير الصناعات العسكرية وزيادة القدرات القتالية.
هذه المقابلة تظهر جانباً من العجز لدى قيادة المملكة العربية السعودية، فالمساعي التوسعية لطهران لم تتوقف، ما يعني أن الكلفة الباهظة لحرب المملكة ضد أذرع إيران ووجودها في المنطقة العربية هي كلفة ضائعة، وبدلاً من الاستناد لما راكمته سياسة المواجهة من فاتورة مالية وأخلاقية باهظة، جرى التحول لسياسة المصالحة استناداً لاعتبارات اقتصادية وأمنية مهمة لكنها ظرفية، وخطوات متتالية تفتقد للمقابلة بالمثل.
قطار التطبيع
يحلو للصحافة الرسمية لدى بعض أنظمة الحكم العربية الإشارة إلى التهافت المحموم على التطبيع مع نظام الأسد بوصفه "انفراجة كبيرة"، والأصل من كلمة "الفرج"، يسرٌ بعد عسر، خيرٌ يحمله القدر على غير ميعاد، نسعد به ونصيح: جاء الفرج.
وهو ما يصلح ليكون أصدق التعبير عن لسان حال الأسد في دمشق، الضعيف المنهك المعزول، الفاقد للسيادة المغرق بالديون المهدد بالمحاكم المكبل بالعقوبات مستباح الحمى صباح مساء من كل الجهات، إنه عصيٌ على الإنقاذِ والرهانُ عليه خاسر، يتهافت عليه المسؤولون من شتى العواصم مهنئين مباركين التئام الشمل، ويا له من "لؤم".
والحق أن التسمية جرت هندستها بعناية، كي تخفي خلفها ما لا يخفيه التطبيع مع دمشق، من العبثية وغياب الثوابت وضياع الجهود، لكنها لا تفشي سراً حين تجعل زعماء عرب وإقليمين على صعيدٍ واحدٍ والأسد، فالطغيان ملة واحدة.
خلاصة
في سوريا، عجلة الصراع تغيرت، والجديد الذي رافق دخول الثورة عامها الثاني عشر لا يقتصر على تبدل موقف أنقرة والرياض، بل على انزياح واضح في الخارطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، حاولت المملكة العربية السعودية مجاراة الواقع المتبدل، لكنها أخطأت في القراءة حتى من منظور براغماتي يقدم المصلحة المجردة، فالخطوة الواسعة التي أراد ولي العهد إنجازها قد توصف بالطيش أكثر من وصفها بالديناميكية، والفيصل في ذلك هو مآلات المشهد الجديد، رغم أن المأمول هو مشهد يقترب بالمملكة من رؤيتها الطموحة ٢٠٣٠، إنما المؤكد أنه مشهد سيعكس ما تعانيه المملكة اليوم في سياساتها، من سيطرة المزاجية وبعثرة الجهود.