الاغتيال كان كبيرًا في شكله وفي أبعاده، والمسافة بين البداية والخاتمة شاسعة، مليئة بالمحطات المهمة من تاريخ المنطقة. تحول الحزب خلالها إلى فاعل رئيسي مهم، والتحم اسمه باسم حسن نصر الله حتى غدت نعوته اليوم نعيًا للحزب نفسه.
ومنذ بواكير ظهوره، أعرب السيد عن صلته بقادة "الثورة الإسلامية". لم تكن هذه الصلة مجرد سياسة مرحلية، بل نهجًا حركيًا راسخًا. ومع وصول الأسد الابن إلى السلطة في دمشق، اتسع طريق إمداد الحزب من طهران، وتمكن من تحقيق نصر عسكري انتهى بتحرير الجنوب، ومثلت هذه المحطة الصعود الأهم على صعيد الأداء والإمكانيات والحاضنة والرمزية.
ثم سرعان ما تحول الحزب من حركة مقاومة إلى شريك في الحكومة وأهم فاعل سياسي في لبنان. ثم تورط في اغتيال الحريري والتموضع الطائفي، وبعد ذلك تمكن من خوض معركة صيف 2006 بجسارة وكفاءة أضافت لمسيرته وزنًا مهمًا، لكنه تحول لاحقًا إلى نقمة على بقية لبنان، إذ استطاع احتكار قرار الحرب والسلم. وحافظ الحزب على مستوى عالٍ من الخطابة، وتمسك بشعار المقاومة ضد إسرائيل رغم ضياع البوصلة بعيدًا نحو مدن سورية قريبة وبعيدة، بالإضافة إلى حضوره بصور شتى في مناطق صراع مختلفة وعواصم عربية وأجنبية.
كشف الاغتيال عن هوة ساحقة يعاني منها الحزب وداعموه بين الخطابة والأداء، وعن اختراق أمني واسع منح أطنان المتفجرات قيمة كانت ولا تزال مفقودة في غزة.
خطوط الإمداد تحطمت بعد خروج الخارطة السورية عن السيطرة الإيرانية، حيث أصبحت الأجواء مستباحة ليل نهار من سلاح الجو الإسرائيلي، والقرار في القصر الرئاسي في دمشق مسلوب لصالح موسكو، والنتيجة عزلة الحزب وتراجع إيران.
بعد حادثة الاغتيال الكبير، خسر الحزب أكثر مما يمكنه تعويضه في وقت قريب، وأصبح يعاني من غياب القيادة والحاضنة والإمداد معًا.
هذا سيغري الكيان المحتل بمزيد من التصعيد. سياسة حافة الهاوية تتسع لمزيد من الأهداف الاستراتيجية، وسندفع جميعًا ثمن هذا "الإنجاز". لقد استعاد العدو هيبةً ضائعة منذ عامٍ كامل، واستعاد الاعتبار بعد هوان، وعاد لموقعه بين دول الطوق، صاحب التفوق العسكري والتقني والمخابراتي، صاحب القول والفعل واليد الطولى. ولن يطول الوقت قبل أن نرى عودة قطار التطبيع، وسعي الحاكمين العرب والأجانب لخطب الود وطلب الصداقة.
وقد كشف الاغتيال عن هوة ساحقة يعاني منها الحزب وداعموه بين الخطابة والأداء، وعن اختراق أمني واسع منح أطنان المتفجرات قيمة كانت ولا تزال مفقودة في غزة. كما كشف الاغتيال عن نطاق واسع من الممارسات الإجرامية للحزب، مما جعل من اغتيال قائده مناسبة سعيدة للملايين.
نهاية تجربة نضالية محلية، اجتمعت لها أسباب وأدوات ونجاحات وخبرات تتجاوز حجم الحركة والدولة اللبنانية. من المؤسف ألا يقابل هذه النهاية حزن وشعور بخسارة مكتسب، بينما نشهد احتفالات واسعة في مناطق مختلفة من العالم، في الساحات نفسها التي شهدت ولا تزال تشهد على وقفات التضامن مع غزة.
قديماً قيل: الناس شهود الحق، وحده الحزب يتحمل كبر المسافة الفارقة بين الموقفين؛ الموقف الداعم لغزة والموقف الصامت إزاء لبنان.
نحن نقترب من جديد من مشهد الشرق الأوسط القديم، حيث لا متغيرات يمكن الرهان عليها، بينما التفوق الإسرائيلي هو الثابت الأظهر، ولا توجد خواصر رخوة يمكن أن تحمل كمونًا قابلاً للتحريك، بل سيطرة تامة على دول الطوق وعلو واسع على دول المنطقة.
الشرق الأوسط القديم
لوقت قريب، ظل الشرق الأوسط خاضعًا للهيمنة الأميركية الكاملة، لم يكن سلاح العرب مصدر تهديد لإسرائيل، وانحسرت حركات المقاومة في هوامش ضيقة ضمن قواعد اشتباك غير محلية. إلى أن جاء الربيع العربي، منذرًا بمفاجآت في المشهد السياسي ومهددًا التوازن القائم عبر تسيل الإرادة الشعبية لملء فراغ السلطة، وهو ما لم ينجح. بل إن المشهد بعد عقدٍ من الزمن انكشف عن انطلاق قطار التطبيع مع الكيان.
ثم جاء طوفان الأقصى كمحطة تشتيت جديدة وضعت الهيمنة الأميركية موضع الاختبار، وأوقفت قطار التطبيع إلى حين، وبدا أن تل أبيب تعاني فقدان التوازن ومهددة من الداخل والخارج، ومحاصرة من شعوب العالم، وعاجزة عن الوصول لقادة حماس المحاصرين منذ سنين على بعد أمتار.
هذا كله قد تغير الآن. لم يعد في الساحة متغيرات يمكن الرهان عليها، إذ استطاعت إسرائيل أن تنزل بقطاع غزة نكبة كبيرة لن يتعافى منها لسنوات، وبذلك نحّت مصدر التهديدات جنوبًا. ثم استطاعت أن تزيح حزب الله، مصدر التهديدات شمالًا، كما استطاعت إبعاد إيران كمصدر خطر في سوريا. فأصبحت طهران من تعاني العزلة والتهديد، بينما تمسك تل أبيب بزمام الهيمنة والمفاجأة والتفوق في المنطقة بأسرها.
نحن نقترب من جديد من مشهد الشرق الأوسط القديم، حيث لا متغيرات يمكن الرهان عليها، بينما التفوق الإسرائيلي هو الثابت الأظهر، ولا توجد خواصر رخوة يمكن أن تحمل كمونًا قابلاً للتحريك، بل سيطرة تامة على دول الطوق وعلو واسع على دول المنطقة.
هناك تطور إيجابي وسط كل ما سبق، يتمثل في تراكم الخبرات وتوافر الإمكانات. ويظل التحدي الأبرز متمثلًا في إيجاد رؤية سياسية واعية تعالج ما أفسدته الإيديولوجيات، وتفيد من الخبرات والإمكانات ومن تطورات المشهد العالمي.