تطلعنا دروس التاريخ وعبره أن أعتى قوى الشر والطغيان قد انهارت أمام إرادة الشعوب وهذا ما يجعلنا أمام حقيقة راسخة مفادها أن الشعوب الحية لا يمكن أن تُقهر، والشعب السوري أحد أعظم تلك الشعوب وأكثرها عراقة، فهو بلا شك سليل أمجاد من صنعوا الحضارة في أحلك الظروف وأصعبها، وفي واقع الأمر لم يتوقع الكثيرون أن يقوم الشعب السوري بثورته بالنظر إلى وحشية النظام وبطشه، ولو أن نظرتهم كانت أعمق لتبين لهم أن هذه الثورة ما هي إلا نتيجة منطقية لشعب يأبى بطبيعته الذل والهوان وهو على استعداد لتقديم أعظم التضحيات في سبيل عزته وكرامته.
بعد الاستقلال عاشت البلاد حالة فريدة من التعددية والتنوع والمواطنة، إلى أن استولى نظام البعث على السلطة ليدخل البلاد في نفق الاستبداد المظلم ويلغي مظاهر المجتمع المدني ويطمس هوية الشعب ويقمع الحريات، كان لابد لذلك الليل الطويل أن ينجلي مهما كلف الثمن، وقد أدرك السوريون أن ذلك الثمن سيكون باهظاً لكنهم عقدوا العزم وقُضي الأمر.
انطلقت المظاهرات السلمية بملايين السوريين تلف أرجاء البلاد وكان وقعها كالصاعقة على نظام اعتقد أن البلاد مجرد مزرعة له والشعب عبيد لديه، مما جعله يفقد صوابه ويتعامل معها بكل وحشية ودناءة، في تلك الأثناء نجح السوريون بكل أطيافهم أن يرسموا لوحة السلام التي تجمعهم كسوريين قبل أن يعمل النظام على تشويه تلك الصورة بخبثه وهمجيته.
إن السنوات العشر التي خلت وما حصل فيها من أمور لا يتصورها عقل كانت كفيلة بأن توهن أعظم الأمم، بل إن جميع من كتب في السياسة والاجتماع يتفقون في تعريفاتهم لمفهوم الثورة على قاسم مشترك ألا وهو العنف.
إن جميع الثورات التي قامت في العالم، قوبلت بالعنف والقمع، وهو بلا شك أمر متوقع، إلا أن ما فعله النظام قد فاق جميع ردات الفعل القمعية لأكثر الأنظمة دمويةً، صحيح أن النظام استطاع أن يقتل ويدمر ويشرد ويعتقل ويمارس أساليبَ وحشيةً لا يتصورها عقل، لكنه لم يستطع إخماد الثورة التي أصبحت قيمها ومبادئها متأصلة في نفوس السوريين.
بعد تلك الرحلة الشاقة لا مجال للالتفات إلى الوراء فالخيار الأوحد هو إكمال الطريق والمضي قدماً نحو النصر الذي أضحى وشيكاً أكثر من أي وقت مضى، خاصة أنه وبعد كل التضحيات الجسيمة لم يعد هنالك ما يُخشى عليه من الخسارة، ومن يعش واقع الحياة اليومية للسوريين يدرك بجلاء تلك الحقيقة، عن ذلك الأب الذي قدّم فلذات أكباده في إحدى المعارك وهو يتكلم عنهم بشموخ وفخر أو تلك الأم الثكلى التي فقدت أطفالها في القصف وهي تراهم طيوراً في الجنة، وأولئك اليتامى الذين ينتظرون عودة والدهم من المعتقل، عند كل ذلك سوف تتيقن من تعابير وجوههم ونبرات أصواتهم وانهمار دموعهم أن النصر آت لا محالة. ومع كل ذلك يصرُّ المستبدون ألا يتعلموا العبر من دروس الماضي حتى يلحقوا بمن سبقهم من الطغاة الذين احتفظ بهم التاريخ في صفحاته السوداء لينالوا نصيبهم من لعنات الأجيال.
على الطرف المقابل ومما لا يخفى على أحد، فإن الثورة بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى قيادة سياسية موحدة قادرة على صناعة واقع أفضل للسوريين بكل أطيافهم بعد تنحية الخلافات والمصالح الشخصية، حيث تضع أمامها هدف تنظيم الصفوف، والعمل الجاد والدؤوب نحو البناء والتنمية، ولا شك أن ما يكابده السوريون الرازحون تحت قبضة النظام من ظروف تعيسة تجعلهم يتطلعون أكثر من أي وقت مضى للخلاص من ذلك الكابوس الجاثم على صدورهم.
من هنا فإن الحكومة السورية المؤقتة تقدّر عالياً التضحيات العظيمة لأبناء الشعب السوري، وبالرغم من ضعف الإمكانيات فقد بذلت قصارى الجهود للتخفيف من معاناتهم وتوفير مقومات الحياة الكريمة لهم، واتبعت كل السبل لتحقيق الأمن والاستقرار ووضعت الخطط اللازمة للارتقاء المؤسساتي وبناء إدارة نموذجية، وهي تحاول بشكل حثيث ومستمر تلبية الاحتياجات السكانية وفقاً للإمكانيات المتوفرة لديها، مع التركيز بشكل أساسي على قطاعات الصحة والتعليم والخدمات والزراعة. إن تلك الخطط والغايات سوف تشكل منعطفاً مهماً يشجع فعلياً على العودة الآمنة والطوعية لأعداد كبيرة من السوريين وليس بأساليب التضليل والخداع التي ينتهجها النظام المجرم وداعموه في الوقت الذي يعجزون عن تأمين أبسط مقومات الحياة للمواطنين، كما ستقطع الطريق على كل المغرضين الذين راهنوا على إخفاق الثورة في عدم قدرتها على بناء دولة المؤسسات والقانون.
وليس من قبيل التفاؤل وبث الأمل في النفوس، ولكن النصر بات وشيكاً والحلم أصبح أقرب إلى الحقيقة بفضل الصمود الأسطوري للشعب السوري وصبره، وسيدحر نظام القمع والاستبداد مع ضباع الأرض وتعود سوريا المحبة والسلام ملاذاً يجمع كل السوريين، وسوف يكتب التاريخ بحروف من ذهب للأجيال القادمة قصة ثورة عظيمة لشعب جبار قهر الصعاب وصنع المستحيل من أجل حريته وكرامته.