من الإجحاف اعتبار المدن والبلدات التي أعاد النظام السوري السيطرة عليها عبر المزادات السياسية والصفقات، ساحات منتهية الصلاحية الثورية، والأقسى من ذلك، تذويب الحاضنة الشعبية والتخلي عنها، خاصة بعد الأحداث المصيرية التي خطتها التشكيلات المسلحة بالإكراه أو الإقرار في غالبية المحافظات، فما جرى تنفيذه في المناطق الثائرة تتكشف خيوطه تدريجياً، حيث تشير إلى وقوع جموع المناضلين على درب الحرب بكمين محكم، ارتكبته المنهجية الدولية المتبعة في سوريا ضد الثورة وتربيحاً للأسد ولو مرحلياً، وتمحور ذلك بإحداث شرخ عالي التنسيق بين الأصل المؤسس للثورة "الحاضنة الشعبية"، وذراعها العسكري، بهدف تصفية كل منهما على انفراد، إذ عملت الأطراف المساندة للأسد، وكذلك الجهات الدولية التي باعت السوريين أحلام وردية على تفعليه بقوة، طمعاً منها بوأد القاعدة الشعبية للثورة، كخطوة ضرورية من وجهة مشروعها في معركة إعادة تكرير النظام سياسياً، بعد تغاضيها عما فعله عسكرياً، وتحضيراً لمرحلة سياسية تكون للنظام اليد العليا فيها.
وعلى ما يبدو، فقد كان الهدف الخفي من الصفقات السياسية لمخططي التهجير والتسويات في المدن الثائرة، يتمحور في تدمير مستودعات الذخيرة للثورة "المدنيون"، فهم الخطر الحقيقي مهما ارتفع صوت المعارك واشتدت المواجهات، واستمرار وجودهم كان ولا بد أنْ يجبر المجتمع الدولي تحت ضغط الرأي العام العالمي على الانصياع لمطالب السوريين مهما حاولت الدول تمييع ذلك من خلال التركيز على "محاربة الإرهاب الذي لا وجود للأسد فيه".
الثورة السورية كانت تمتلك ألف تشكيل مسلح ويزيد، ولكن بعد تهجيرهم وحشرهم في زاوية واحدة، باتت أصواتهم معدومة
ولعل البعض يعتقد أن قوة الثورة في عسكرها، وأن تعداد الفصائل سيحمل في جعبته الحل المنشود، طبعاً لا أحد ينكر أن الخيار العسكري كان ضرورة لا بد منها أمام الهجمة الدموية التي اتبعها النظام في معركته لكسر إرادة التحرر، ولكن إذا رمقنا نظرة معمقة للفصائل التي انهزمت بساحات المواجهات السياسية، والتي دلت الوقائع إلى عدم حيازها القدرات اللازمة للقتال في مثل هذه المعارك، سنجد بأن الثورة السورية كانت تمتلك ألف تشكيل مسلح ويزيد، ولكن بعد تهجيرهم وحشرهم في زاوية واحدة، باتت أصواتهم معدومة وتأثيرهم أكثر انعداماً، ولعل هذا مرده إلى تعمد السياسة الدولية عزل المدنيين عن المقاتلين، فالأول أصبح بعد ذلك ضعيفاً مسجون بين حنايا الرعب وجدران الإرهاب، والثاني بات بلا قاعدة شعبية جوهرية مشغلة ودافعة له، بعد أن كانت تلك القاعدة، المسبب الرئيسي في أساس تشكله بعد الأشهر الأولى من الانتفاضة الشعبية، فواقع أي فصيل اليوم تغير إلى أبعد المستويات بعدما تمت عملية خلعه ونفيه بعيداً عن أبناء مدينته، إلى واقع جديد، وحتى لو أراد الدفاع عمن تركهم خلفه، فلن يستطيع إحداث ذلك التأثير المنشود، والذي كان بإمكانه فعله عندما كان بينهم، ومنتشراً في محيط المدن ليحميهم من كل الجبهات، فما بالكم بإمكانية عودته إلى سكة الثورة مجدداً؟، فرغم امتلاكه لمئات المقاتلين وأعداد لا تحصى من الأسلحة المتوسطة والخفيفة، إلا أنه لم يعد يملك قرار إطلاق طلقة واحدة ضد النظام، بعد التشعبات الدولية التي أرخت بظلالها على الواقع المحلي.
إنهاء الجناح المسلح للثورة السورية مؤقتاً، أو بمعنى أدق حشره في خانة اللاتأثير، ونجاح المخطط الدولي في هذا الاتجاه، لا يعني بالضرورة إخراج التشكيلات العسكرية خارج المعادلة الواقعية إلى ما لا نهاية، وكذلك لا يعني إفناء - المدنيين – وهم أعتى أسلحة الحراك السوري التي يهابها الأسد ويخشاها، وما الحراك المتصاعد في الغوطة الشرقية بريف دمشق، وحتى درعا جنوب البلاد، إلا مؤشرات لا لبس فيها، بأن السوري المسلح بقدسية مطالبه وأحقيتها، لم يمت ولن يموت، وبأنه سيعيد الثورة إلى سيرتها الأولى.
فالمدنيون اليوم رغم تجربتهم المريرة طيلة السنوات السابقة، ورغم تحقيق معادلة فصل الحاضنة المدنية عن الأذرع العسكرية في الواقع، إلا أن أبناء الغوطة ومهد الثورة عادوا للزمن الأول، فيتحفون العالم بعبارات مناهضة للأسد ومطالبة بإسقاطه، وتتوسع تدريجيا، لا يهابون النظام ولا الميليشيات الإيرانية ولا الشرطة الروسية، يدافعون بأنفسهم عن أنفسهم التي يحاول حلف الأسد اغتيالها عبر سياسة الانتقام والتهميش والاعتقالات، حتى تطورت تلك الاحتجاجات في درعا مؤخراً، إذ بدأت عمليات عسكرية متفرقة يقودها مقاتلون سابقون في الجيش السوري الحر ضد حواجز قوات النظام والميليشيات المؤيدة له، وهذا إن دل على شيء، فإنه يعكس كم الضغط الممارس عليهم وتعمد إهانتهم وإذلالهم من قبل قتلة الأسد الذين لو استطاعوا قتل كل نفس مؤيدة للثورة، لم يتأخروا عن فعل ذلك لدقيقة واحدة.
كما أن طبيعة الحراك السلمي والعسكري الذي بدأت أحداثه بالتنامي في الغوطة الشرقية ودرعا، يحتم على الأطراف السياسية السورية الممثلة للثورة في المحافل الدولية، استغلال ذلك بشكل مدروس في المباحثات الدولية، والاستفادة من الأخطاء القاتلة التي وقعوا فيها سابقاً، خاصة إذا ما تحولت هذه الظواهر إلى سياسة عامة قد تلجأ إليها كافة المدن التي تعيش أوضاعاً معيشية مشابهة، ولعل تسليط الضوء في الفترة الراهنة على الجانب الإنساني في تلك المواقع من أكثر الأمور أهمية، حتى الوصول إلى واقع جديد تفرضه الثورة على الجميع، ألا وهو عزل المدنيين عن النظام السوري، وإفشال مخططات تركيعهم خاصة بعد حالة عدم الثقة التي نتجت عن ممارسات الفصائل الخاطئة في المدن التي بدأت أصوات ابنائها بالارتفاع مؤخراً ضد الأسد، ومن لف لفيفه من أنظمة وميليشيات دخلت سوريا بهدف تمزيقها وتحطيم ما بناه السوريون بدمائهم طيلة سبع سنوات قد خلت.
يريد المجتمع الدولي من وراء سياسة عزل مدنيي الثورة عن عسكرها، فرض معادلة على قطبي الصراع المتمثلين بالنظام و(المعارضة)
وعلى ما يبدو، فقد أراد أو يريد المجتمع الدولي من وراء سياسة عزل مدنيي الثورة عن عسكرها، فرض معادلة على قطبي الصراع المتمثلين بالنظام و(المعارضة)، أسلحة تلك المرحلة ربما ستتمحور حول نسبة الحاضنة الشعبية التي يمتلكها كل طرف، والتي قد تصبح فيما بعد المرجعية لتقاسم السلطة بعد تجاهلهم الأولي لحقيقة ما يجري في سوريا، واعتباره تنافساً على السلطة بين نظام ومعارضة، وفي خطوة لاحقة مساواة الجلاد بالضحية، وأخطر الخطوات لعلها ما جرى في العامين الأخيرين، عندما نجحت سياسة الدول الكبرى بعزل أصل الثورة عن فرعها العسكري، فهذا الطرح أو ما يشابهه لحدث ممكن جداً، وذلك استناداً للمعطيات غير المنتهية، فالأسد أجرم بالسوريين إلى أبعد الحدود، وسمحوا له بتدمير سوريا الدولة بشعبها وحاضرها ومستقبلها، حتى أوصلونا إلى واقع يمكن لأي سوري مشاهدة الدمار فيه على مستوى الإنسان قبل الحجر، وإن الشيء الوحيد الذي لا لم يدمر داخل أروقة هذا الوطن، هو الجهة التي فعلت ذلك!