icon
التغطية الحية

"صمتٌ" غاضب بالشعر والموسيقا والغناء

2024.06.22 | 12:44 دمشق

آخر تحديث: 22.06.2024 | 12:44 دمشق

564574564
من عرض "صمت"- حلا عمران
+A
حجم الخط
-A

عنوان العرض: "صمت". إخراج: سليمان البسام. أداء وتمثيل وغناء: حلا عمران. موسيقا: (بزق- كونترباص) عبد قبيسي، (إيقاع بركشن) علي حوت.

التعبير غاية العمل الفني والصمت أسلوبه

لا تختلف سينوغرافيا الخشبة المسرحية، التي تمتد على طيلة زمن العرض، عن نوع الفرقة الغنائية أو الموسيقية، أو عن نوع الإلقاء الشعري، والمركزية المشَكّلة حول المؤدية – المغنية (حلا عمران). بينما يوحي حضور الموسيقيَّين قبيسي وحوت على الدور الذي سيلعبانه وتلعبه الموسيقا في تشكيل الخلفية الصوتية، الشعورية، وأحياناً السردية للعرض. فقط تحضر كراسٍ فارغة على الخشبة مخصصة للجمهور الراغب بالتقرب من مشهدية الفرقة المسرحية، وخصوصاً حين يفضل المخرج البسام إلقاء كلمة بدلاً عن كتابتها في بروشور العرض المطبوع، وكأنه يفتتح الأداء التعبيري أو الموسيقي على الخشبة، بالقول: "أمام الصمت، أمام العنف المتصاعد، أمام التضليل الأعلامي، يُطرح السؤال: ماذا يمكن أن يكون دور الفن؟".

يبدو الصمت هنا باعتباره توصيفاً للمشهد السياسي والأخلاقي للعالم المعاصر: لكن تالياً يتابع المخرج: "عرض صمت، هو عرض مسرحي يناجي الصمت" فيحمل الصمت هنا مستويات ملتبسة في ذهن المتلقي بين الصمت كمنتقد أخلاقي، والصمت الفني الذي هو محاولة للتعبير ولكن بطريقة شرطية أوفنية. وتلعب قصيدة، نصوص، وأداءات العرض على الثنائية الأولية التي تميز العمل الفني، باعتباره احتمالات العلاقة بين الصمت والتعبير، أو بين المباشرة واللامباشرة. وينشغل المتلقي بسؤال العرض الذي يطرحه المخرج بداية: ما هو دور الفن؟ هل يمكن اللجوء إلى أدواتنا المعهودة؛ أي تلك العناصر التي تكون العمل المسرحي؛ أي السرد، الحدث والشخصية؟".

الموسيقا والغناء والنصوص الشعرية كجزء من الصمت

يبدو التساؤل عن دور الفن في لحظة الكارثة أو العنف، دافعاً أساسياً لتحقيق العرض الحالي على المسرح والتواصل مع الجمهور، ونقل السؤال الهاجس، ولكن أيضاً كعرض مأتمي وجنائزي لحزن المدينة، يقول البسام: "هذا العرض رسالة محبة إلى بيروت. لا تكتمل كتابة الصمت إلا بوجودكم. انفجار مرفأ بيروت هو الخلفية لنص صمت". وعلى مستوى الحدث المسرحي، فإن العرض، وكما تشير الساعة في أعلى الخشبة، ينطلق قبل 6 دقائق من لحظة الإنفجار. ويستشير العرض مجموعة من الخبراء في مجال المتفجرات، وكذلك مجموعة من شهادات الناجين والناجيات أو شهادات الخسارة والفراق. ومن هنا، قرأ وجد العديد من الجمهور، أن المخاطبة في النص الشعري الذي يمتد على طيلة العرض، والمخاطبة في الأغاني المؤداة على الخشبة، هي المدينة بيروت. لكن مقاطع أخرى في القصيدة توحي بأن المخاطب/ة هو الصمت:

"لا تنطقين، تمارسين الرفض عبر تثبيت النقيض.

لا تصلين لأي رب.

حاجة الآخرين إلى فهمك، الحاجة إلى الفهم، الاحتفاء.

لا حياة إلا قاتلة، الملل القاتل.

كنت عبقرية في المسرح، أريان مينوشكين الشرق، بعروضك تبتكرين الخيال وتشرحين السلطة، تدمرين النفاق".

الصمت من السياسي إلى الذاتي

وفي التدقيق في بعض الفقرات التي تخاطب الغائبة مباشرة، نجد عناصر تتقاطع بين هذه الحاضرة الغائبة وبين ممثلات المسرح، وربما تجربة الفنانة حلا عمران. وفي المقاطع المتقدمة من القصيدة، تتضح المخاطبة وكأنها المنطقة العربية، التي تفرض على أبنائها ونسائها تجارب القتل اليومي، منطقة تعيش وهم النهضة الثقافية:

"صمتك الآن، يذكر بمكان لآخر، ببلدة صغير قذرة، لم يشملها مشروع التطوير، بلدة من بلدات القتل اليومي. لا ينقصنا إلا التدليك والتنظيم لآليات الدولة، تشجيع الشباب، نعيش نقطة تحول تاريخي، تجدها على هاشتاغ".

يركز نص العرض على نقد التجربة الثقافية العربية الحالية، وربما خصوصاً في الخيلج العربي، فينهمك الفضاء الشعري برسم السخرية الشفيف من ظواهر ثقافية يشهدها العالم والخليج العربي مؤخراً، كما في ذكر الهاشتاغ في الاقتباس السابق من زيف التجربة الثقافية التي تعيشها المنطقة العربية:  

"لو وضعت فناً يشبه العطلة، جمال ومتعة للناس، شاطئ.

فناً يحلل المختل

فضاءات الثقافة الزائفة

الكليشيه، الستيريوتايب.

لا مفر لك، لا مفر لي".

فالنص يسخر من برامج المواهب الوطنية، ومن حفلات الروف توب، ومن حال المرأة العربية: "الشخصيات النسائية لم تكن إلا sex toys، بكماوات، لا أفواه لهن، مكبوتات". من هنا، يربط العرض التعبير الوجداني بالنقد السياسي والاجتماعي والثقافي. وتتسم هذه الفقرات النقدية بالوضوح، لتعود ثانية لغة النصوص إلى التكثيف والتعبير الوجداني العصابي، والمقصود هنا الشحنة الإنفعالية الغاضبة التي تبتكرها الفرقة المسرحية على الخشبة، كما هو الحال في أداءات فرق الهارد روك، أو الأندرغراوند.

تتعدد التأويلات للغة النصية التي اختارها البسام، وكذلك للأداء المسرحي الذي اختارته الفرقة الموسيقية، وتحديداً أداء المغنية حلا عمران. على مستوى النص، تكثيف يحمل تراكيب دقيقة في بنيتها وعلاقاتها، كتب عنها النقاد باعتبارها قفزات الهروب من اكتمال المعنى، وعدم الوقوع في فخ الخطابات السياسية والإعلامية التي تتناول قضية انفجار مرفأ بيروت. ربما أن اختيار هذا الأسلوب الأدبي هو الرغبة في محاربة كل ما هو معطى ونمطي ومنظم وقانوني في اللغة. واعتبرت العديد من الكتابات أن التحدي الأدبي والمسرحي يكمن في الهروب من الخطاب الواضح والكامل، لإفساح المجال إلى احتمالات التعبير تحول شهادات الوجدان إلى إيقاعات وألحان وصوت غنائي.

لكن لا يمكن الوقوف على هذا الخيار المسرحي لأجل الهروب من اكتمال الصيغ، فهذا الأسلوب يخلق كثافة تعبيرية أيضاً، وليس عدم اكتمال وحسب، وربما أمكن البحث عن خصائص الأسلوب الأدائي لمعرفة الإمكانيات المسرحية، الغنائية، والتعبيرية الذي يحمله، وهذا ما يمكن أن يمتد من النصوص الشعرية أو النثرية إلى الأغاني العاطفية أو الوطنية، وأخيراً إلى المونولوجات المسرحية. ورغم أن الأداء المسرحي وصف بالأداء الاستفزازي أو الأداء التعبيري المباشر والصارخ، إلا أن المتلقي لا يشعر بأن الهذيان والصراخ موجه نحوه، بل بالعكس، إن هذا الأداء يفسح المجال لتعبير جديد، يوصف غضبه الخاص، ويبتكر له فضاءات جديدة في التعبير عن المشاعر التي تنتاب سكان المدينة التي عرفت ثالث أكبر انفجار غير نووي في العالم.

تكتب (ريم منصور الأطرش) عن مسرحية (الصمت، ناتالي ساروت، 1967): "في مسرحية (الصمت، 1967) يقترف رجل خطيئة ما، وكما يحدث دائماً، تقترف خطيئة في اللغة والمحادثة وتكبر بشكل مفرط لتصبح جريمة. وكلما استمر الكلام في محاولة التبرير فإنه يشرع أكثر في الجنون. حالما يبدأ الكلام يتحسر المرء على الصمت أو يلجأ إلى كليشيهات، فتلفظ شخصيات ناتالي ساروت تفاهات، لكنها غير قادرة على التوقف عن الحديث. لكن المسرح أيضاً هو مكان للكوميديا، حينها فقط تكسر الكاتبة الساخرة شخصياتها الدمى التي تتلفظ بجمل جاهزة ملتقطة من الكليشيهات الاجتماعية. الحوارات مشوهة ومتحولة ومبتذلة. ويلعب الصمت في المسرحية التي تحمل هذا العنوان دوراً هزلياً أيضاً".

عع6
مسرحية الصمت- ناتالي ساروت

بين هذه التحولات التي تجمع الذهني بالنفسي، تترواح تجليات الصمت في مسرحية البسام، صمت وحديث ولغة، الكلام المعبر يودي إلى الجنون، الكليشيات تنزعج عن كل تعبير إمكانياته، وهكذا تظهر محاولات التعبير متحولة وموتورة، وبالأدق كثيفة.

"اعرف جمهورك، من هو جمهورك؟ ما هي الرسالة التي تقدمين؟ وما هي المقولة؟ ما السلع التي تصدرين؟ ما مستوى العنف الذي تقبلين؟ ما مستوى الإنحراف الذي تريدين؟ أهو قبول ما تحبين؟ أم تعبير عن الروح؟ أين هي القضية؟".

لا شك أن كل ما سبق، يربط الصمت ببعده الاجتماعي، إدانة اجتماعية، أو تعبير غاضب اجتماعي، على جريمة جمعية. وبعد أن تؤدى أغنية عن الفقدان والخسارة، تقول الأغنية: "يا نجمة الليل، ضوي على البراري، صديقي ضايع، يا نجمة الليل وما رجع صديقي". يبدأ الثلث الأخير من العرض يفتح الأفق على موضوعة الذات، وعلاقات الذات:

"أن يحكي أحدنا بينما الآخر يصمت، يعني أن بيننا أسرار، خطابي هذا ليس سراً، رسالة.

خطابي هذا هو صرخة واحدة، غير محققة، صرخة تلوثينها وبدناءة.

ماذا تفعلين بي؟

عن الذوات التي تولدينها وتقتلينها في داخلي".

يكتب (دينيس ماريون) عن فيلم (الصمت، أنغمار برغمان، 1963): "فيلم الصمت حلم من أوله إلى آخره، وإن لم يقدم على هذا الأساس". وهو يروي حكاية شقيقتان، سويديتان، يرافقهما ابن الصغرى، تجتازان بالقطار، في طريق عودتهما إلى بلدهما، منطقة تجهلان كل شيء عن لغتها. والكلمات المعدودة التي سيتاح للمشاهد قراءتها أو سماعها طيلة عرض الفيلم لا تنتمي إلى اللغة الفرنسية، أو الإنكليزية، أو الألمانية. الجغرافيا تجعلنا ندرك أننا بصدد لغة ومنطقة وهميتين شرطيتين. عندما تكون الكلمات المسموعة أثناء الحلم غير مفهومة، فهذا يعني أن النائم لا يود أن يفهم ما يقال له، خوف أن يكئتب مما سيسمع أو أن يصدم. وهنا لكل من الأختين مميزات على مستوى الذات، فاستير، الشقيقة الكبرى، مترجمة، وهي تسعى إلى تحديد معنى كلمات غير مألوفة، وإلى الاتصال، من خلالها، مع كائنات أخرى. أما الشيقية الصغرى، آنا، فلا تضايقها على الإطلاق العزلة التي يفرضها اختلاف اللغات، فهي تشتري صحيفة، وتلقي عليها نظرة عابرة، كما أنها تؤدي بلا مشقة الأفعال اليومية.

54457443
فيلم الصمت لـ برغمان

وكما هو الحال في عرض البسام، وفي رواية (الغثيان، جان بول سارتر، 1938)، وفي فيلم (برغمان) المذكور، فإن لا خلاص من هذا الشعور المسيطر على الذات، من اغتراب، أو انحباس، أو غثيان، إلا كما يبدو بالموسيقى. يكتب (ماريون) عن فيلم برغمان: "ومع ذلك، فإن هنالك طريقا تسمح لهما، إن أرادت الأختان، الإفلات من قبضة عذابهما. فثمة كلمة واحدة تبدو مقروءة في الصحيفة، إنها اسم باخ، وثمة صوت وحيد يبدو مفهوما، صوت الموسيقا التي يبثها المذياع والتي تجمع للحظة بين هذه الكائنات الثلاثة". وربما هذا الخيار بالتحرر عبر الموسيقا والغناء، أو بالتعبير عبر اللحن والأداء، هو الخيار الإبداعي الذي أدى إلى تحقيق العرض الحالي.

ويصل العرض إلى ذورة الأخيرة، حيث يختلط الذاتي-الوجداني، بالسياسي-الجمعي، بجمل متقاربة بالمضمون ومتنافرة بالسرد، ويركز القسم الأخير على احساس اللاجدوى، وتبدل المغنية حلا عمران من الطبقات والنوتات الصوتية في الأداء، بينما تتصاعد موسيقا عبد قبيسي وعلي حوت، لتشكل أرضية المشاعر الجمعية التي يرغب العرض بتكريسها، قبل أن تقترب الساعة على المسرح من لحظة الانفجار. وفي ظل هذا الإيقاع الكامن والمتصاعد، يقول النص الشعري: " اكتفيت، انتهيت من الكلام، أفرغت حقدي، انتهيت من الجمل، لم يبقى لي إلا القليل، لأشرعه عـ... صمت". وربما تضمر النهاية العديد من خصائص العرض، فالنهاية صممت لتشهد على تزامن معطيين على الخشبة: المعطى الأول أغنية تؤديها الممثلة عن الحب، وعن البوح، وعن دعوة إلى ممارسة الحب أو الموت، ربما كخيار الحياة في مشهدية الموت هذه، تقول كلمات الترنيمة: "أنا أحب ولا أخفي، ولا أنكر، وحتى ولو قطعوني بالسكين، أرح فمك فوق فمي، أعطني يدك لنرحل إلى الحقل، ونتبادل الحب أو نموت". أما المعطى الثاني، والذي يشكل شعوراً مستمراً بالآلام هي شهادة أخيرة عن صعوبة وعي تجربة عيش انفجار مرفأ بيروت، أو أي صدمة أخرى، إلا بعد وقوعها، وكأن الجمهور المسرحي في العرض الحالي يشكل وعياً جديداً في تعبيراته واحتمالاته لما عاشه في الكارثة.