يلعب الرئيس الأميركي دوراً بارزاً في صناعة السياسة الخارجية للدولة، وتنعكس خلفياته ورؤيته الإيديولوجية التي يتبناها على سلوكه السياسي وهذا ما يميز رئيساً عن أسلافه من الرؤساء الآخرين، كما يعزز النظام الدستوري الأميركي من دور الرئيس، حيث منحه قدراً كبيراً من الاستقلال في الشؤون الخارجية.
وحين وصول الرئيس للحكم يقوم بتعيين وزراء حكومته وغيرهم من كبار المسؤولين الذين يجلبون معهم أولويات وأفكارا جديدة تتناسب مع إيديولوجية الرئيس وأفكاره، وبعد ذلك يحاولون ترجمتها إلى سلوك سياسي يحققون من خلاله الأهداف التي يسعون لتحقيقها. وهذا يأخذنا إلى نتيجة أن تغير السياسة الأميركية قد يرتبط باحتمال وجود حوافز سياسية محلية تدفع الرؤساء إلى تغيير سياساتهم، فعندما ينتقل البيت الأبيض إلى ملكية جديدة، يمكن للرئيس الجديد انتهاج تغييرات سياسية تميزه من سلفه من أجل الوفاء بوعوده في الحملة الانتخابية. وإلى جانب الرئيس، تسهم أيضا في صناعة السياسة الخارجية الأميركية المؤسسات البيروقراطية التي يطلق عليهم اسم "الدول العميقة" وهي بالدرجة الأولى جهاز الاستخبارات "cia"، ومجلس الشيوخ ومجلس النواب، ووزارة الخارجية والمؤسسة العسكرية، ولهذه المؤسسات دور في عرقلة قرارات الرئيس إذا كانت تعارض توجه السياسة العليا للدولة.
وتتمتع مؤسسات الدولة العميقة بإجراءات تشغيل موحدة وتنظيمية عميقة الجذور تستمر عبر الزمن، ومن الصعب على الرئيس أن يخترق ذلك ببساطة من أجل تصوراته السياسية الخاصة، لذلك نرى في كثير من الأحيان أن السياسة الخارجية التي ينتهجها الرئيس تتوافق مع ما ترسمه مؤسسات الدولة العميقة. ويعد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من أكثر الرؤساء الذين حاولوا تنفيذ سياسات خارجة في بعض الأحيان عن المألوف وتتناقض مع نهج وتوجهات الدولة العميقة الأميركية، وأبرزها قراره انسحاب القوات الأميركية من سوريا عام 2018، والذي رفضته مؤسسات الدولة.
وفي الفترة الحالية تقبل الولايات المتحدة الأميركية على انتخابات رئاسية، ويعد دونالد ترامب بحسب استطلاعات رأي محلية الأوفر حظا بالفوز على حساب غريمه جو بايدن الرئيس الحالي، وانطلاقا من ذلك نناقش في سطور هذه المقالة انعكاسات سيناريو وصول ترامب إلى حكم البيت الأبيض على الملف السوري في الفترة المقبلة، من خلال مناقشة سلوك ترامب السابق في سوريا، والذي على ضوئه قد يتضح لنا بعض ملامح انعكاسات وصول ترامب للبيت الأبيض على الملف السوري.
سياسة دونالد ترامب السابقة تجاه الملف السوري
في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب شهدت الساحة السورية وما يرتبط بها العديدَ من الأحداث البارزة، ففي السنة الأولى من حكمه وجّه ترامب أوامر للجيش الأميركي في عام 2017 بالقيام بضربات محدودة على القواعد العسكرية للنظام السوري وبالتحديد مطار الشعيرات في حمص، وذلك رداً على استخدام بشار الأسد لسلاح السارين الكيميائي في هجوم ضد المدنيين. وفي عام 2018، أمر ترامب الجيش الأميركي بالتنسيق مع قوات فرنسية وبريطانية بقصف منشآت في سوريا مرتبطة ببرنامج الأسلحة الكيميائية التابع لنظام بشار الأسد ردا على استخدام نظام بشار الأسد للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في الغوطة. وأعلن ترامب في عام 2018 عن قرار غير مألوف وغير مدروس وهو قرار سحب واشنطن لجميع قواتها التي يزيد عددها على ألفي جندي من سوريا، ووصف العديد من الديمقراطيين والجمهوريين في الكونغرس القرار بأنه متسرع، واصطدم القرار بمعارضة مجلس النواب بتصويت 354 صوتا ضد القرار مقابل 60 لصالح القرار.
وفي إطار متصل بالملف السوري شهدت فترة ترامب أعلى درجة من العقوبات والتضييق على إيران الحليف الاستراتيجي للنظام السوري، وخاصة عندما أعلن عن الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) بشأن البرنامج النووي الإيراني، إذ وصف ترامب الاتفاقية بأنها لم تكبح بشكل كاف البرنامج النووي الإيراني. كما شهدت فترة ترامب قيام الجيش الأميركي باغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني في بغداد بغارة بطائرة من دون طيار، حيث يعدّ سليماني أحد أبرز الشخصيات التي ساندت النظام السوري في قتال قوات المعارضة السورية. والنقطة الأبرز في عهد ترامب في الملف السوري هي توسع تدخل القوات التركية في سوريا بعد قيام أنقرة بعمليتين عسكريتين ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الأولى عملية غصن الزيتون عام 2018 في مدينة عفرين، والثانية في عام 2019 في منطقتي رأس العين وتل أبيض. ومن الجدير بالملاحظة أن توسع نطاق النفوذ العسكري التركي داخل سوريا كان بغالبيته في عهد دونالد ترامب، في حين لم تشهد سوريا أي عمليات عسكرية ضد قسد في فترة جو بايدن حتى تاريخ كتابة المقالة.
سيناريو عودة ترامب للبيت الأبيض وانعكاساته على الملف السوري
كما بيَّنا في مقدمة المقالة أن للرئيس الأميركي وفريقه الذي يحكم البيت الأبيض توجهاتٍ أيديولوجيةً وأهدافا واهتمامات تنعكس على السياسة الخارجية للدولة ولو بنطاق محدود، وبالإضافة إلى ذلك، يخصص كل رئيس الوقت والاهتمام بقضايا أو مناطق مختلفة حول العالم، وقد أعطى ترامب في ولايته السابقة الأولوية لأميركا من خلال برنامجه "أميركا أولاً"، أما خارجيا فقد ركزت سياسته على الحرب التجارية مع الصين وبدرجة متساوية على مواجهة إيران، إذ أعطى القرار بالانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) بشأن البرنامج النووي الإيراني، وفرض العقوبات الاقتصادية القصوى على طهران. وعلى الرغم من أن مواجهة إيران كانت أولوية بالنسبة لترامب، فإن سياسته المناهضة لها لم تظهر على الأراضي السورية بشكل مؤثر في دورته الرئاسية السابقة، لكن من المتوقع في حال فوز ترامب بالانتخابات المقبلة أن يدعم الهجمات المركزة بالطائرات الحربية التي تقوم بها إسرائيل على قواعد ومراكز وجود الميليشيات الإيرانية بشكل أوسع مما هو عليه في الفترة الراهنة، لتصل إلى درجة شلّ حركة الميليشيات والحدّ من فاعلية إيران القتالية على الأراضي السورية. ومن جهة أخرى من المتوقع أن تكون سياسة دونالد ترامب في حال فوزه بالانتخابات أكثر تعاونية مع تركيا فيما يخص التعامل مع قوات (قسد)، مما قد يسمح لأنقرة أن تتمدد أكثر على الساحة السورية من خلال شن عمليات عسكرية محدودة جدا على مناطق وجود قوات قسد، ويستند هذا التحليل إلى سلوك تركيا في فترة دونالد ترامب السابقة، إذ شنت حينذاك أنقرة عمليتين عسكريتين بريّتين، في حين لم تقوم بأي عمليات عسكرية برية في فترة جو بايدن، ولكنها اقتصرت على الضربات الجوية المركزة على تجمعات وقيادات قوات قسد.
من جهة التعامل مع بشار الأسد، من غير المتوقع أن يُحدث قدوم دونالد ترامب تغييرا جذريا على مستوى التعامل مع النظام، ومن المحتمل أن يبقى بحدود ما يتم رسمه في أروقة الدولة العميقة ويكون بالمحافظة على الوضع الراهن بوجود القوات الأميركية شرق الفرات، وإبقاء النظام في حالة ضعف سياسي واقتصادي، وعدم تمكينه من كامل الأراضي السورية، وإبقائه محاصرا دوليا من خلال عرقلة عودة العلاقات السياسية معه.
في النتيجة، بالنظر إلى سلوك ترامب في فترة حكمه السابقة النابع من اهتماماته وأولوياته وأهدافه قد لا نشهد اختراقا جذريا على الملف السوري بل توافقا مع سياسات الدولة العميقة، إلا أنه من المتوقع أن يُحدِثَ مجيئه خرقا في بعض الملفات الإقليمية المرتبطة بشكل أو بآخر بالملف السوري من ناحية العودة للضغط على إيران، وانفتاح أكثر للتعاون مع تركيا مما قد يُحدث تحركا للملف السوري بشكل لا يغيّر كثيرا من المعادلة الحالية.