حين عرفتُ أني أصبحت مطلوباً لأجهزة مخابرات الأسد، قطعتُ مع الكثير مما ألِفته وأحببته في حياتي من أهل وأصدقاء وأنشطة واهتمامات تتعارض مع حياة التخفّي ومقتضياتها، من تغيير في طبيعة الحياة والعلاقات والاسم وبطاقة الهويّة علاوة على سرّية السكن وتغيير الملامح من خلال تغيير لون الشعر وإطلاق الشاربين وارتداء نظارة توحي أنها طبّيّة، والابتعاد عن المقاهي والسينما والمسرح والأحداث الأدبية والفنية.
ولكن أصعب ما في هذا الواقع الجديد كان قرار الحزب بتفريغي كاملاً للعمل الحزبي إلى جانب عدد من المتفرغين الذين يمكن عدُّهم على أصابع اليدين، وبالتالي كان لا بد لي من التوقّف عن كل ما يفضي إلى الشعر كتابةً وطقوساً ومناسبات، ذلك لأنه ليس عقلانياً أن يتزوج المرء قضيتين في وقت واحد.
كنت أمرض كلما ساق الشعر غيومَه في اتجاهي، وكان عليّ أن أتجاهله ممنِّياً النفس بأني سأعود إليه في حال اعتقالي.
مزح معي أحد الرفاق: وما يدرينا أنك لن تمهِّد طريقك إلى الاعتقال بصورة لا شعورية لتعود إلى الشعر؟
لحسن حظي، وربما لسوئه، أن اعتقالي لم يتأخر سوى أربع سنوات، لأجد نفسي بعدها خلف أبواب يصعب عدُّها كما في سبعة أبواب الحكايات، ويستحيل تمييز الليل من النهار بالعين المجرَّدة.
كتبت كثيراً على ذاكرتي، إذ لم تكن الأوراق والأقلام متاحة في السنوات الخمس الأولى التي بدأت بجولات تحقيق وتعذيب ماراثونية في فرع فلسطين ثم في سجن تدمر الصحراوي
لكأن الشعر كان متأهِّباً، فرافقني منذ اللحظات الأولى للاعتقال، وما هي إلا أياماً وأسابيعَ وشهوراً، حتى صار الشعرُ مفتاحَ المفاتيح، وشهرزادَ الحكايات، وملاكَ الحرية في خيالي وأعماقي.
كتبت كثيراً على ذاكرتي، إذ لم تكن الأوراق والأقلام متاحة في السنوات الخمس الأولى التي بدأت بجولات تحقيق وتعذيب ماراثونية في فرع فلسطين ثم في سجن تدمر الصحراوي.
ولكن تغيَّر الحال بعد نقلنا إلى سجن صيدنايا العسكري، حيث أفرغت ما في ذاكرتي على أوراق السجائر، ثم خبَّأتها داخل هدايا على شكل لوحات خشبية كنا نقدمها للأهل خلال زياراتهم الشهرية.
أوصيت أهلي أن لا يتصرفوا بقصائدي ما دمت حياً.
في الحقيقة أوصيت سميحة نادر، التي كانت تتابع شؤون الزيارات والمحكمة بوصفها زوجة أخي إبراهيم المعتقل معي. أعرف سميحة منذ كانت طفلة صغيرة، فهي أخت صديقي الشاعر وحيد نادر. وكانت هي الوحيدة التي أثق بخبرتها الأمنية وقدرتها على التعامل مع شؤوننا وأسرارنا ومهرَّباتنا ورسائلنا.
وكنوع من الاحتياط والتحسُّب للطوارئ كنت أهرِّب كلَّ ما أكتب على أكثر من نسخة. قد تكون النسخة الأشمل أو الأكمل هي التي هرَّبها لي الصديق عدنان محفوض عبر زيارات زوجته الصديقة والرفيقة لينا الوفائي التي صارت أختاً صغرى لي منذ عرفتها وهي طالبة في المرحلة الثانوية، إذ قامت ببطولة مسرحية غنائية من تأليفي.
من ضربات القدر التي تكسَّرتْ بروقها واضطرمت عتماتها في داخلي أن عدنان رحل باكراً. لم يمهله العمر طويلاً بعد إطلاق سراحه.
في إحدى جلسات المحاكمة أبلغتني سميحة أن هناك دار نشر أردنية مستعدة لطباعة مجموعة شعرية من قصائدي المهرَّبة، وأن هناك أصدقاء موثوقين يتكفّلون بمتابعة التفاصيل، ولكني حذّرتُ سميحة أن تعطي قصائدي لأحد، فللأمر مخاطره التي لا يسعني الحديث عنها وأنا في قفص المحكمة، ولكن أياً تكن اعتبارات الأصدقاء فإني أرفض الأمر بصورة جازمة.
بعد سنتين أو ثلاث كان أخي إبراهيم على وشك أن ينهي حكمه، فسألني إن كان عليه أن يفعل شيئاً بأوراقي المهرَّبة، وحذَّرته من نشر أي شيء، وذلك تحسّباً من أن تقوم السلطات بمنع زياراتي أو إعادتي إلى سجن تدمر حيث الحياة منقطعة تماماً عن العالم الخارجي.
لاحقاً قال لي أخي في إحدى الزيارات:
- أراك تراجعت عن قرارك بشأن عدم النشر!
- بل ما زلت عند قراري.
- ولكن صدرت مجموعة شعرية باسمك في بيروت، وقرأتُ في إحدى الصحف مراجعة نقدية لها باسم كاتب يُدعى دروبي إقبال، ولكن اسمه الحقيقي علي سفر.
تعكَّرتْ أعماقي للخبر، واكفهرَّت الهواجس والاحتمالات التي يمكن أن تترتب على نشر المجموعة، والتحقيقات التي ستنفتح من أجل معرفة كيفية تهريبها، ومَن هُم وراء نشرها، وغير ذلك من التفاصيل التي لا أعرف عنها شيئاً، ولا سبيل لإقناع المحققين بأني فعلاً لا أعرف.
كل حساباتي واحتياطاتي وتحذيراتي ذهبت هباء.
فيما بعد جاءني خبر بأن الشاعر الشهير والسجين السياسي السابق عبداللطيف اللعبي قد ترجم المجموعة وصدرت بالفرنسية.
مضت شهور عديدة وأنا أترقب ردّ فعل السلطات، ولكن لم يحدث أي شيء من تخوفاتي، لا بل على العكس، صار اهتمام إدارة السجن بي واضحاً من خلال تفاصيل كثيرة كإنزالي إلى مشفى تشرين العسكري لإجراء فحوص وصور وتخطيطات وتحاليل شاملة رغم أن النزول إلى المشفى يقتضي الطلب أو التسجيل أولاً، ثم انتظار الدور لعدة شهور. لم أكن أعلم حينها أن هناك حملة دولية من أجل الإفراج عني، وقد اتسعت الحملة أكثر مع وصول معلومات تشير إلى أن وضعي الصحي في خطر.
سألت أهلي فرداً فرداً عمن يمكن أن يكون وراء إيصال قصائدي إلى من رتّب شأن نشرها تحت عنوان "حمامة مطلقة الجناحين"، ولم أعثر على أي خيط يفضي إلى حلّ اللغز.
بعد الإفراج عني عرفت أن الرفاق خارج سوريا، وبخاصة الفنان يوسف عبدلكي والفنان منير الشعراني والكاتب الراحل جميل حتمل، هم وراء نشر المجموعة ووراء الكثير مما تضمنته الحملة الدولية.
ولكن بقيت حلقة مفقودة وتؤرِّقني: كيف خرجت القصائد من بيت أهلي، أو من عند سميحة تحديداً؟!
أكَّدتْ لي سميحة أنها لم تعط القصائد لأحد، وأنا أصدّقها وأثق بها تماماً.
لم أترك أحداً ممن يمكن أن يكون له علاقة بالموضوع إلا سألته، ولا جواب.
لقد اقتضى الأمر خمسة عشر عاماً لاحقاً، لكي تتواصل معي الصديقة فضيلة الشامي على الفيسبوك وتفكّ أزرار اللغز، وبالتالي عملية "السطو" الذي تواطأت فيه مع الصديق بسام سفر.
ولجلاء حقيقة ما حدث، كتبَ الصديق بسام على صفحة الصديقة فضيلة في 22 آذار/ مارس 2013 ما يلي:
"اعتراف غير أمني:
أعترف، أنا بسام سفر، بأنني والمدعوّة فضيلة الشامي، قمنا بسرقة ديوان شعري من منزل سميحة نادر زوجة إبراهيم بيرقدار الكائن في جرمانا، وكان ذلك في النصف الأول من تسعينيات القرن الفائت، وقمنا بتصويرها، وإعادة ترتيبها بالتنسيق مع جهة مختصة لإصدار الديوان المذكور بعنوان "حمامة مطلقة الجناحين". وصدر الديوان وشاعرنا الجميل فرج ما زال في المعتقل. تحية لفضيلة الشامي وتحية لرفيقي وصديقي فرج على كل ما أصدره فيما بعد".
ولكي تستكمِل المصادفات ما عندها من تفاصيل، فقد تحدثت في إحدى المقابلات أو الندوات، التي أدارها الصديق عماد الظواهرة، عن قصة الكتاب، وكان بين المداخلين في الندوة الصديق الشاعر علي سفر، فأكمل قصة تهريب القصائد من لحظة استلامها من أخيه بسام إلى لحظة إيصالها إلى باريس.
لم يكن تهريب تلك القصائد إلى باريس أمراً عادياً أو سهل العواقب، ولهذا طلب عليّ تصغير الصفحات، التي عرفتُ مؤخراً أن سميحة كتبتها بخطها نقلاً عن أوراق السجائر، فاستنجد بسام بأحد المختصّين، وتدبّرا الأمر عبر آلة تصوير مناسبة لتصغير الصفحات بما يكفي لأن تصبح قابلة للإخفاء في غلاف كتاب مجلَّد بعد فتحه وترتيب الأوراق داخله وإعادة تخييطه أو لصقه.
وختم عليّ كلامه قائلاً: بالمناسبة.. فإن أوراق الديوان ما زالت عندي في الشام.
تقتضي الأمانة هنا إشارتي إلى أنه لم يكن عليّ رفيقاً حزبياً، بل شاعر وصحافي يساري، ولكنه من أسرة لم تبخل بتقديم كل ما تراه مستحَقَّاً من أجل الحرية.
صحيح أن مجموعة "حمامة مطلقة الجناحين" لم تبلغ سبعين صفحة رغم رفدها وتكريمها بعدة لوحات للفنان يوسف عبدلكي، إلا أن سيرتها جعلتها أطول مما هي بكثير.
مدين أنا وممتنّ لكل من ساهموا في سيرة هذه المجموعة، التي لعب نشرها –بعكس توقعاتي- دوراً مهماً في الحملة الدولية، وبودّي لو أشكرهم جميعاً بعينيّ ويديَّ وقلبي.