كشف الباحث ومدير تلفزيون سوريا حمزة المصطفى والكاتب السوري والباحث في الحركات الإسلامية الجهادية والمسلحة في سوريا حسام جزماتي في ورقة مشتركة لموقع ميدل إيست آي (Middle East Eye)، عن السيرة الذاتية لأبي محمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام وعائلته وخلفيتها الاجتماعية والسياسية، في مسعى منهما لفهم التحولات السلوكية والتنظيمية والفكرية داخل هيئة تحرير الشام.
وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا للورقة:
لم تعد هوية زعيم هيئة تحرير الشام (هتش)، التي كانت تعرف سابقاً باسم جبهة النصرة، تخفى على أحد، إذ كشف أبو محمد الجولاني عن اسمه الحقيقي وغاص عميقاً في الحديث عن بيئة عائلته في مقابلته الأخيرة مع فرونتلاين.
وهكذا وبعد سنوات من التخمين والجدل، وبفضل الأبحاث والمقابلات الموسعة التي أجريناها حوله، بات بوسعنا أن نتعقب اليوم كيف صاغت نشأته الاجتماعية فكره الجهادي ضمن السياق السياسي الاجتماعي الأوسع.
فقيادة الجولاني التي تتسم بالجاذبية والتي من المحتمل أن تؤثر في حالة التعاون بين الولايات المتحدة وتركيا فيما يتصل بالملف السوري، وذلك عبر لعبه دوراً أساسياً في تقرير مصير إدلب، مثلت آلية مهمة للتغيير ضمن جبهة النصرة ومن ثم هيئة تحرير الشام.
وبالرغم من أهمية نظرية الحرمان النسبي في فهم بعض جوانب الفكر الجهادي في سوريا، إلا أن هذه النظرية التي ترى بأن التباينات الاقتصادية يمكن أن يكون لها دور حاسم في مسألة الثورة والتطرف، لا تفسر لنا كيف تم الزج بالجولاني ليصل إلى قمة الهرم ضمن التنظيم الجهادي الأكثر تأثيراً والأقوى نفوذاً في سوريا.
وبالعودة إلى نشأته نكتشف بأنه كان يحمل اسم أحمد حسين الشرع عند ولادته، وبأنه من مواليد مدينة الرياض لعام 1982، وبالرغم من أن أصول والده تعود لبيئة فلاحية، إلا أن الجولاني ولد لأسرة مدينية تنتمي للطبقة الوسطى، حيث أمضى سنوات طفولته الأولى ويفاعته وصولاً إلى سن المراهقة في أحد أحياء دمشق الراقية. وهناك لم يسبق له أن تعرض للسجن أو التعذيب من قبل النظام السوري، بما أن هذه الحوادث يمكن أن تولد رغبة بالانتقام بين صفوف الجهاديين. بيد أن ذلك لا ينسجم مع نظرية التطرف الناتج عن الضغط السياسي أو القمع الذي تمارسه الدولة.
تاريخ أسرته
اختص حسين الشرع، والد الجولاني، بالاقتصاد، حيث ولد في مرتفعات الجولان عام 1946، واستلهم أفكاره من مبدأ القومية العربية والزعامة الكاريزماتية التي تجسدت في الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر. وفي ستينيات القرن الماضي، مع تصاعد المد القومي العربي بعد سلسلة من الانقلابات المتعاقبة التي قادها حزب البعث في كل من العراق وسوريا، غادر حسين الشرع سوريا ليدرس الاقتصاد في جامعة بغداد، ثم عاد إلى سوريا في مطلع سبعينيات القرن المنصرم، وجاءت عودته تلك بالتزامن مع ظهور ما عرف باسم الحركة التصحيحية، والتي هي في حقيقة الأمر مجرد انقلاب أتى بحافظ الأسد إلى السلطة.
استهل والد الجولاني حياته المهنية بالعمل كموظف حكومي قليل الشأن في وزارة النفط، ثم عمل لدى المجلس المحلي لمحافظة القنيطرة خلال الفترة الواقعة ما بين 1972-1976 حسبما توصل إليه البحث الذي أجريناه. ولكن مع تصاعد العداء بين النظامين البعثيين في كل من سوريا والعراق، وإبدائه لتعاطفه -سياسياً وفكرياً- مع النظام العراقي، تسبب ذلك بخروجه في نهاية المطاف من سوريا وتوجهه نحو المملكة العربية السعودية، حيث عمل هناك في مجال صناعة النفط.
ويبدو أن والد الجولاني قد كرّس جل الوقت الذي أمضاه في السعودية لخدمة البحث العلمي، خاصة فيما يتصل بتسخير عوائد الموارد الطبيعية لتعزيز التنمية في العالم العربي، حيث ركز كتابه الأول الذي يحمل عنوان: "النفط والتنمية الشاملة في العالم العربي" (1983)، على الدور الحيوي الذي يمكن أن يلعبه فائض الأموال العربية في دمج الدول العربية ضمن الاقتصاد العالمي مع مواصلة التنمية الشاملة، خاصة في القطاع العسكري.
أما كتابه الثاني الذي يحمل العنوان: "التقييم الاقتصادي ومستقبل التنمية في المملكة العربية السعودية" (1983)، فيبحث في إمكانية تسخير اقتصاد النفط وتحويله لمحرك أساسي يدفع نحو نمو شامل في العالم العربي. فيما يركز كتابه الثالث المعنون: "الاقتصاد السعودي في مرحلة بناء التجهيزات الأساسية" (1984) على دمج قطاع النفط وتوحيده مع القطاعات الأخرى، لاسيما قطاعي الصناعة والزراعة، وذلك لرفد القطاعات الحيوية وعلى رأسها قطاع التعليم والبناء والنقل. ثم أتى كتابه الرابع الذي يحمل العنوان: "أوبك 1960-1985: التحولات كبرى والتحدي المستمر"، والذي نشر في عام 1987.
بعد عودة والد الجولاني إلى سوريا في أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، تم تعيينه مستشاراً في وزارة النفط أيام رئيس الوزراء الأسبق محمود الزعبي الذي كان يخطط حينها لإنعاش اقتصاد سوريا المتعثر ولرفع عوائد النفط وغيره من الموارد الطبيعية إلى أقصى الحدود. وقد تواترت الأخبار بأن الزعبي أقنع الشرع بالعودة إلى القطاع العام لمساعدته في وضع تلك الخطة موضع التنفيذ. ولكن بحسب المقابلات التي أجريناها، انتهت الأمور بوالد الجولاني ليتحول إلى ضحية للظلم في المجال الإداري بعد رفضه التوقيع على صفقات اقتصادية مخالفة للقانون سبق أن طلبها منه مسؤولون رفيعون لدى النظام.
الشخصية النرجسية
بعد كل ذلك افتتح حسين الشرع مكتب وساطة عقارية، كما أصبحت أسرته تكسب رزقها من خلال متجر صار أشقاء الجولاني يديرونه. وهكذا كبر الجولاني -الذي كان الأصغر بين أشقائه الذكور- وترعرع ضمن هذه البيئة المدينية المعتمدة على نفسها والمكتفية بذاتها من الناحية الاقتصادية، غير أن المشكلة الوحيدة التي اعترضت طفولته الوادعة كانت صفة "نازح" التي التصقت بأسرته حيثما حلت أو ارتحلت، فبقيت تذكره بأصوله التي تعود للجولان.
هذا وتولي الدراسات الكلاسيكية المتعلقة بالأمن ومكافحة الإرهاب أهمية كبيرة للعوامل النفسية السيكولوجية لدى الأفراد بوصفها عوامل تدفع نحو التطرف والراديكالية، ومن بين تلك العوامل هنالك الشخصية النرجسية التي تتقاطع عادة مع الإحساس بالاغتراب على المستوى السياسي، إذ يمكن لذلك أن يساعدنا على تحليل شخصية الجولاني وتحولاتها المختلفة سواء قبل تبنيه للفكر الجهادي أو بعد ذلك.
إذ بحسب ما ذكره أحد زملائه في المدرسة الابتدائية فإن الجولاني كان يرتاد إحدى المدارس الموجودة في حي المزة بدمشق، وحينها كان أحمد الشرع فتى نحيلاً ومرتباً ومجتهداً، كما كان ذكياً واسع الحيلة، إلا أن شخصيته كانت انطوائية على المستوى الاجتماعي. وبما أن والده كان مستشاراً لدى رئيس الوزراء، وأمه معلمة في مدرسة، لذا كان المأمول منه أن يبدي ذكاء وأدباً وانضباطاً جماً، وذلك ليعكس أبهى صورة ممكنة عن تلك الأسرة.
بيد أن الجولاني أبدى في سن مبكرة إحساساً بالاختلاف والتميز عن الآخرين، بحسب ما أشارت إليه الدراسة التي أجرينها، وهكذا تغيرت شخصيته الملتزمة أيام طفولته تدريجياً، لتحل محلها شخصية ثائرة، ما أدى إلى تراجع درجاته في المدرسة. كما اختبر الجولاني أنماط حياة جديدة، إذ كانت وسامته محط اهتمام الكثير من الفتيات، وذلك قبل أن يقع في حب فتاة علوية (والتي لابد لأي جهادي أن يعتبرها كافرة)، غير أن رفض الأسرتين لقصة الحب تلك أوصلها إلى نهايتها في آخر المطاف، وهذا ما عمق الخلاف على الأرجح بينه وبين أسرته في الوقت الذي كان فيه الجولاني يبحث له عن هوية تميزه كفرد، الأمر الذي دفعه للتركيز على الفروقات الطائفية داخل مجتمعه.
آثار أحداث 11 سبتمبر على شخصيته
كمعظم أبناء وبنات جيله، أثرت أحداث 11 سبتمبر على الجولاني أيما تأثير، وقد تجلى ذلك بما انعكس على شخصيته، إذ إن شن هجوم ضد الولايات المتحدة التي تعتبر القوة العظمى في العالم وعلى أرضها يعتبر إنجازاً استثنائياً نفذه أشخاص استثنائيون عزموا على تغيير العالم. ونتيجة لإعجابه الشديد بمنفذي هجوم 11 سبتمبر بدأت أولى إرهاصات الجهادية بالظهور في حياته، حيث بدأ بحضور خطب وعظية وحلقات نقاش تعقد بشكل سري في ضواحي دمشق المهمشة مثل حجيرة وسبينة ودروشا.
أما الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 فقد منح الجولاني الفرصة ليميز نفسه كفرد، حيث أثبت أنه خلق من طينة أسامة بن لادن عينها، ولهذا أخذ يقلده في لباسه وأسلوبه الخطابي. كما مثلت تلك فرصة سانحة ليميز نفسه عن أبيه الذي كان يعشق سرد ذكرياته عن العراق.
بمعنى أدق، يمكن القول إن الابن حاول أن يفعل ما عجز والده عن فعله، إذ لم يرتضِ لنفسه الاكتفاء بمتابعة الأخبار وتحليل ما يجافي الصواب بوصفه مراقباً من الخارج، بل قرر أن يكون في عين العاصفة، وهكذا تخلى عن فكرة القومية العربية التي أمضى والده جل حياته يروج لها في مواجهة ما اعتبره طائفية وقومية مفلسة فكرياً. باختصار يمكن القول إن الجولاني طور عقيدته الفكرية المبسطة القادرة على حشد الجهاديين وغيرهم من الثوار على حد سواء في زمن الحرب.
وفي عام 2003، مع الدعم المقدم للشبكات اللوجستية الجهادية في سوريا، انتقل الجولاني إلى العراق حيث انضم لسرايا المجاهدين، وهو فصيل جهادي صغير سيء السمعة نشط في مدينة الموصل، وقد قام هذا الفصيل بمبايعة أبي مصعب الزرقاوي عقب تأسيسه لفرع القاعدة في العراق في عام 2004، والذي تحول بدوره إلى تنظيم الدولة فيما بعد.
تم إلقاء القبض على الجولاني في مرحلة مبكرة، إذ اعتقل في أواخر عام 2004، وبقي رهن الاعتقال حتى أوائل عام 2010، ما حرمه من شغل أي منصب قيادي في التنظيم طوال تلك الفترة. ولكن وفقاً للبحث والمقابلات التي أجريناها، كان الجولاني بارعاً في التأقلم مع المجتمعات المحلية في العراق بكل عاداتها ولهجاتها، خاصة في الموصل، ولعل ذلك ما يفسر سبب سجنه في سجن بوكا وهو معسكر اعتقال عسكري سيء الصيت أقامته الولايات المتحدة بالقرب من مدينة أم قصر بالعراق. وبما أن الجولاني كان يحمل هوية عراقية مزورة وقتئذ، لذا استطاع أن يقنع لجنة التفتيش الأميركية التي تضم عناصر عراقيين بأنه مواطن عراقي.
تدرجه في الرتب والمناصب
خلال فترة اعتقاله، أقام الجولاني علاقات وطيدة مع العديد من الجهاديين العراقيين الذين أصبحوا فيما بعد من أهم القادة العسكريين لدى تنظيم الدولة. وبعد إطلاق سراحه، استفاد الجولاني من علاقاته ومعارفه بشكل كبير، حيث أخذ يتدرج في الرتب والمناصب بشكل تدريجي داخل تنظيم الدولة، مع انتظاره بفارغ الصبر للحظة المناسبة حتى يقوم بتحقيق هدفه البعيد.
إذ في أواسط شهر آذار من عام 2011، بعيد إطلاق سراح الجولاني بفترة قصيرة، قامت الثورة في سوريا، والتي بدأت بانتفاضة سلمية، تحولت فيما بعد لنزاع مسلح، فكان ذلك بمثابة فرصة ذهبية بالنسبة للجولاني وأبي بكر البغدادي، إذ في الوقت الذي مثل فيه التورط في سوريا للجولاني فرصة سانحة للابتعاد عن القطيع وليثبت للجميع بأنه قادر على تحقيق إنجاز عظيم، سمحت الظروف ذاتها للبغدادي بنفخ الروح في تنظيمه المتهالك، إلى جانب التوسع خارج المناطق المقفرة للصحراء العراقية.
وفي ظل تلك الظروف، أعلن الجولاني عن تشكيل جبهة النصرة في كانون الثاني من عام 2012، وبموجب اتفاق مسبق بين الجولاني والبغدادي، تم تشكيل الجبهة دون الكشف عن صلاتها التنظيمية بتنظيم الدولة، فقد خشي كل منهما من تكرار أخطاء الماضي، ولهذا تجنبا فكرة إدراج تنظيمهما على اللائحة السوداء عند تصنيفها كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة وغيرها من القوى الأجنبية.
وفي شهر آب من عام 2011، عبر الجولاني الحدود ليصل إلى سوريا، يرافقه عدد ضئيل من الجهاديين العراقيين والسوريين. ويقال إنهم حملوا معهم 60 بندقية آلية فقط حينها، إذ كانوا يعتزمون تسليم تلك البنادق للخلايا النائمة الجهادية الموجودة في عدد من المحافظات السورية. كانت تلك الصفحة الأولى من فصل طويل لم يكتمل بعد عن النشاط الجهادي في سوريا، والذي أصبح الجولاني فيه شخصية محورية ومثيرة للكثير من الجدل ولكن بشكل تدريجي.
المصدر: ميدل إيست آي