أثناء وقوفه وسط غابة مظلمة تقع على حدود بولندا وتغطيها الثلوج بما أن الثلج ظل يهطل طوال الليل، أخذ علي البالغ من العمر 32 عاماً، وهو معلم سوري، يخبرنا عن أمنيته وهي ألا يعود إلى بيلاروسيا.
ويقدر بأنه بقي في هذه الغابة لمدة ثلاثة أسابيع، فقد قطع الحدود البولندية خمس مرات، إلا أن حرس الحدود أمسكوا به في كل محاولة من تلك المحاولات وأعادوه إلى بيلاروسيا.
بيد أن الحظ حالفه في المرة السادسة، حيث عثر عليه ناشطون ورتبوا له ولمرافقيه وهما حسان، 42 عاماً، وهو قاض سابق، وميدو، 25 عاماً، وهو شاب يعمل في الموارد البشرية، لقاء مع ثلاثة نواب بولنديين في البرلمان الأوروبي كانوا في زيارة لتلك المنطقة الحدودية خلال الأسبوع الماضي برفقة جمع من الصحفيين.
كان الهدف من تلك الزيارة هو الضغط على حرس الحدود البولندي ليقوموا بتسيير طلبات اللجوء الخاصة بهؤلاء الأشخاص، بدلاً من إعادتهم إلى بيلاروسيا، بما أن ذلك يعتبر مخالفاً للقانون الدولي.
المسكوت عنه في سوريا
علي مجرد شخص من بين آلاف الأشخاص الذين سافروا من الشرق الأوسط إلى مينسك بتشجيع من الديكتاتور البيلاروسي ألكساندر لوكاشينكو، في محاولة للوصول إلى دول الاتحاد الأوروبي.
ويخبرنا علي عما كان يقوله الناس في سوريا، حيث ذكر بأن الناس كانوا يتحدثون عن طريق جديد يصل للاتحاد الأوروبي، وبأن الرحلة تكلف نحو 2500 دولار ويختلف السعر بحسب الوجهة النهائية.
إلا أن ما سكت عنه الناس في سوريا هو أنه يمكن للمهاجرين أن يظلوا في المنطقة الحدودية لأسابيع حيث سيقيم هؤلاء بالقرب من مستنقعات وداخل غابات تصل درجة الحرارة فيها حد التجمد، فقد توفي 13 شخصاً على الأقل أثناء محاولتهم العبور في تلك الرحلة الخطرة.
يعلق علي على ذلك بقوله: "لم نتوقع بأن يتركونا بين الحدود وبأننا سنبقى عالقين هناك بلا طعام أو ماء، في ظل ظروف سيئة، مثل النوم في أماكن رطبة، إذ وصلنا درجة التجمد في بعض الليالي".
وفي بيلاروسيا ذكر المهاجرون بأن الجنود احتجزوهم في مخيم مؤقت ثم أخذوهم على دفعات ليقطعوا الحدود إلى بولندا، وعن ذلك يعلق علي بقوله: "إنهم يحاولون أن يبعدوا السياج حتى يسمحوا للناس بالمرور جرياً من تحته". كما أعطى الجنود حجارة للمهاجرين ليرموها على السياج وعلى حرس الحدود البولندية.
تجربة مريرة فعلاً
يشعر هؤلاء المهاجرون الثلاثة بمرارة كبيرة حيال تلك التجربة، حيث يقول حسان: "إن الناس في بيلاروسيا كانوا معنا بغاية السوء".
حيث ذكروا بأن الجنود البيلاروسيين سرقوهم وضربوهم وأعطوهم مياهاً غير نظيفة ليشربوها، الأمر الذي جعلهم يمرضون، فيما تذكر الحكومة البيلاروسية بأنها تقدم المساعدات الإنسانية للمهاجرين على حدودها.
يعلق علي على تجربته بالقول: "كانوا يضربوننا في بعض الأحيان، كما كانوا يقدمون الطعام للمرضى الذين يتناولون حبوباً أحياناً، ولقد استعانوا بكلاب لتعقب الناس في الغابة". كما ذكر بأن حرس الحدود البيلاروسي أجبرهم على خلع ملابسهم وفتشوا ثيابهم بحثاً عن شيء ليسرقوه، ومن ثم ألقوا ثيابهم في النار، وعندما وصل علي للحديث عن ذلك، استدار ميدو وشرع في البكاء.
قبل أن ينجح هؤلاء الثلاثة بعبور السياج المؤلف من أسلاك شائكة والذي أقيم على الحدود بعدما بدأ لوكاشينكو بإرسال المهاجرين إلى الاتحاد الأوروبي، كانوا يسدون رمقهم بما يجدونه من طعام وماء في الغابة، أو على ما يحصلون عليه من أبناء بلدهم أو ما يقدمه لهم الناشطون الذين زودوهم بملابس جديدة وبأكياس للنوم. وخلال محاولاتهم الأولى لم يتمكنوا من تجاوز المنطقة الحدودية المغلقة، وهي عبارة عن قطاع بعرض ثلاثة كيلومترات يقع على الحدود البولندية-البيلاروسية يصعب على الصحفيين والناشطين الوصول إليها، وذلك قبل أن تقبض عليهم السلطات البولندية وتعيدهم إلى بيلاروسيا.
بيد أنهم التقوا بالناشطين خلال الأسبوع الماضي في منطقة بعيدة عن تلك المنطقة الحدودية.
حرب هجينة
كان لوكاشينكو هو من نزع فتيل أزمة الهجرة، وذلك لينتقم من الاتحاد الأوروبي بسبب العقوبات التي فرضت عليه بعد تزويره للانتخابات الرئاسية خلال العام المنصرم، ولهذا يصف الاتحاد الأوروبي ما يحدث بالهجوم الهجين.
وبالرغم من تعرض الحكومة البولندية لانتقادات لاذعة من قبل منظمات حقوقية وذلك بسبب طريقة تعاملها مع المهاجرين، وبسبب رفضها قبول طلبات لجوئهم، ترى وارسو بأنها بكل بساطة تحاول أن تحرس حدودها، كما سمح الاتحاد الأوروبي لدول تشترك بالحدود مع بيلاروسيا بتشديد إجراءات طلبات اللجوء فيها خلال الأسبوع الماضي.
فقد صرح رئيس الوزراء البولندي ماتيوز مورافيكي لصحيفة ألمانية في تشرين الثاني الماضي: "من الواضح أنه إن لم يكن بوسعنا إبعاد آلاف المهاجرين اليوم، فسرعان ما سيصل آلاف آخرون، بل ربما ملايين منهم إلى أوروبا. فإذا لم نكن حازمين في حماية حدودنا في أوروبا والدفاع عنها، فإن ملايين الأشخاص في أفريقيا والشرق الأوسط سيحاولون الوصول إلى أوروبا، خاصة ألمانيا".
بيد أن وطأة هذه الأزمة آخذة بالتراجع، وذلك مع الضغوطات التي بدأ الاتحاد الأوروبي يمارسها على خطوط الطيران وعلى دول الشرق الأوسط لتقوم بوقف الرحلات الجوية التي تنقل الناس إلى بيلاروسيا. واليوم أصبحت هناك رحلات عودة تنقل الأشخاص إلى العراق وسوريا. ففي شهر تشرين الأول الماضي، كانت هنالك 17500 محاولة للعبور بحسب ما أورده حرس الحدود البولندية، بيد أن هذا العدد انخفض إلى 8900 محاولة خلال الشهر الفائت.
ومع ذلك بقي الكثير من الأشخاص في الغابات المظلمة المنتشرة على الحدود بين البلدين.
ترى ماريا زلونكيفيتش من منظمة غرانيكا وهي منظمة غير حكومية تحاول مساعدة المهاجرين، بأنه لم تعد تصلهم سوى طلبات قليلة للمساعدة، ولعل السبب في ذلك يرجع لقيام البيلاروسيين بتنظيم المهاجرين ضمن مجموعات أكبر، إلى جانب قيام الآلاف من الجنود البولنديين ورجال الشرطة وحرس الحدود في بولندا بحراسة الحدود في ظل ظروف جوية غاية في السوء، ولذلك: "لم يعد يصل من الناس سوى قلة قليلة" حسب وصفها.
"مكان آمن"
أصر علي وحسان وميدو على تقديم طلب لجوء في بولندا، حيث كانوا يحملون لافتات تعبر عن تلك الرغبة عندما ألقى حرس الحدود البولندي القبض عليهم واقتادوهم إلى شاحنة عسكرية مفتوحة، ما اضطر وارسو لقبول لجوئهم، ولكن في حال عدم مطابقتهم للمعايير هناك سيتم ترحيلهم.
وفي اليوم التالي، أعلن حرس الحدود عبر تويتر بأن هؤلاء الرجال قد طلبوا اللجوء في بولندا.
وقبل أن تقلهم الشاحنة إلى المقر، سأل الصحفيون علي إن كان يشجع أي أحد على القيام برحلة شبيهة برحلته إلى بولندا، فقال: "قد تموتون هنا، أو هناك، إذ أتينا إلى هنا لا لنؤذي أي أحد أو لنتسبب بأي مشكلة، بل كل ما أردناه هو أن ننعم بمكان آمن".
المصدر: بوليتيكو