عندما رسم "سايكس" و"بيكو" حدود دولنا الراهنة التي نعيش فيها في منطقة الشرق الأوسط، لم تكن سوريا ولبنان، وفلسطين، والأردن، والعراق والجزيرة العربية و..و.. كما هي عليه الآن، كانت كلها سناجق، وولايات ومناطق تتبع للإمبراطورية العثمانية، ولأن كلاً من روسيا، وبريطانيا وفرنسا ربحت الحرب العالمية الأولى، فقد تقاسمت هذه الدول منطقتنا، بصفتها جغرافيا تتبع للدولة المهزومة "الإمبراطورية العثمانية"، ولسوء الحظ أو حسنه، فقد قامت الثورة البلشفية في روسيا، وهكذا انشغلت روسيا بمشاكلها الداخلية، وتخلت عن حصتها في منطقتنا، واستفردت كل من بريطانيا وفرنسا بنا، وقسمتنا كما تقتضي مصالحهما.
إذن رسمت مصالح فرنسا وبريطانيا مصيرنا، وحدود دولنا، وفي ظل احتلالهما راحت الشعوب التي تعيش في هذه المنطقة تتلمس طريقها إلى مستقبلها، لكن كان عليها أولاً أن تتخلص من الاحتلال كي تتمكن من الانطلاق نحو بناء دولها.
كان العدو حينها واضحاً، والهدف واضح أيضاً، وما يجمع البشر كان أهمّ بكثير مما يفرقهم، ولهذا كانت مقاومة الاحتلال مؤشر البوصلة الأهم وربما الوحيد في أجندة هذه الشعوب، فتوحدت في وجه محتلها، ولعل هذه المحطة من المحطات القليلة التي يمكن لنا أن نفخر بها، إن لم تكن الوحيدة.
مرة أخرى تلعب الحروب العالمية لعبتها، لكنها لعبتها هذه المرة بطريقة مختلفة عن سابقتها، فالحرب العالمية الأولى قادت إلى الاحتلال، بينما قادت الحرب الثانية إلى الاستقلال، ومنذ أن رحلت فرنسا عن سوريا، وأصبح السوريون شعباً له جغرافيته، وحدوده ودولته، بدأت رحلة بحث السوريين عن صيغة وشكل الدولة السورية الجديدة.
النخب السورية خذلت سوريا كثيراً، فمنذ أن رحل آخر جندي فرنسي عن سوريا، بدأ السوريون رحلة إنكارهم لسوريا
السؤال الذي يواجهني كلّما قرأت في تاريخ سوريا بعد الاستقلال، ماذا كانت سوريا بجغرافيتها التي رسمتها "سايكس بيكو" تعني للنخب السورية، وكيف رأت تلك النخب سوريا، ومستقبل سوريا، وكيف خططت له؟
غالباً ما أميل إلى النظرة المتشائمة في الإجابة عن هذا السؤال، وأرى أن النخب السورية خذلت سوريا كثيراً، فمنذ أن رحل آخر جندي فرنسي عن سوريا، بدأ السوريون رحلة إنكارهم لسوريا، لكأنما ضاقت هذه المساحة التي مزّقها المستعمرون كما أرادوا، على خطط رجالها، وتنكروا لها، وكان لا بدّ من إلحاقها بعائلة أخرى أكثر أصالة، فراحوا يتقاذفونها بين إنكار هنا وإنكار هناك، هذا يريد إلحاقها بالعراق، وذاك بمصر، وهذا يراها جزءاً من أمة عربية ممتدة من المحيط إلى الخليج، وذاك يراها جزءاً من أمة إسلامية أكبر بكثير، ويكتمل المشهد العبثي عندما يراها فريق آخر جزءاً من مشروع أممي يشمل العالم كله.
لم ينتبه القوميون العرب المتحمسون لعروبة متخيّلة، لحقوق أشقائهم الكرد وباقي القوميات الذين يتقاسمون معهم الخبز والملح والجغرافيا والمصير، ولم ينتبه الإسلاميون إلى أشقائهم من المسيحيين الذين تشاركوا معهم كل التاريخ، وحلم الأكراد بكردستان الكبرى، ولم ينتبه أحد من كل هؤلاء إلى سوريا التي تضيع بين هويات متعددة تتنكر لها، وهي الوليدة التي تحتاج لرؤية على مقاسها، وعلى مقاس حاجتها وحاجة أبنائها.
ستكتمل مأساة سوريا بوصول البعث إلى السلطة، وسيطلق على سوريا اسم "القطر السوري" وسيتقن السوريون فن هجاء الحدود السورية، وكأنها حدود العار، وليست حدود الدولة / الوطن حتى لو وضعها مستعمر.
سيواصل حافظ الأسد إنكار سوريا، لكنه سيبدع أكثر في هذا الإنكار، فهو يلحقها مرة بإيران، ومرة يلحقها بالاتحاد السوفييتي، والأدهى أنه يقرر تصغيرها إلى الحد الذي يمكنه فيه إلحاقها بالعائلة، وعندما يموت، يقرر العالم استمرار إنكارها أيضاً، فيقدمونها كلعبة لمعاق ليتسلى بها.
سيبلغ الإنكار منتهاه بعد الثورة السورية، ومشاريع السوريين بإلحاق سوريا بجهة خارجية، لم تعد تكتفي بإلحاقها عن بعد، فيقررون أن يحضروا جهاتهم الخارجية إلى داخل سوريا، فها هو طرف يساري سوري يتباهى بدعوة روسيا للتدخل المباشر فيها، وها هم إسلاميون يرشّون الأرزّ على الدبابات التركية المتوغّلة في سوريا، وها هو كردي يحتمي بالدبابة الأميركية ويفرض على أي سوري آخر أن يحصل على موافقته كي يدخل أرضاً سورية، وها هي إيران تستقدم كل رعاع الأرض وهمجها، وتستبيح ما تشاء بدعوة من "رئيس" قاصر لم ير في سوريا يوماً وطناً، بل رآها مزرعة موروثة، والأمرُّ من كل هذا رؤية سوريين وهم يحتفلون بموت سوريين آخرين!
من ينظر إلى سوريا وإلى السوريين اليوم، لن يرى إلا بلاداً تمزقها الاحتلالات، وتستبيحها مرتزقة وينهبها لصوص
لم يُعل طرف سوري سوريته فوق هويته الأصغر، ومن فعلوا ذلك كانوا أفراداً عجزوا عن الدفاع عن الهوية السورية الجامعة، بينما ذهب الآخرون إلى طوائفهم وقومياتهم ومصالحهم وأنكروا كما كل الناكرين أن سوريا للجميع وفوق تصنيفاتهم ومصالحهم الضيقة.
من ينظر إلى سوريا وإلى السوريين اليوم، لن يرى إلا بلاداً تمزقها الاحتلالات، وتستبيحها مرتزقة وينهبها لصوص، ولن يرى إلا أبناء عاقّين، يقفون عاجزين عن فعل أي شيء لإنقاذ أم أنكرها أبناؤها، واستباحها الطامعون.
اليوم يجلس السوريون كلهم متفرجين على وطنهم وهو يحتضر، وينتظرون ماذا سيقرر الآخرون لها، ويتبادون التهم والشتائم بينما تتسرب سوريا من بين أيديهم كحفنة رمل.