واصلت الطائرات الحربية الروسيّة غاراتها على منطقة جبل الزاوية جنوبي إدلب، في وقت تتحدّث فيه وسائل إعلام روسية وأخرى موالية للنظام السوري عن وصول تعزيزات إلى أطراف المحافظة من أجل تنفيذ عملية عسكرية مرتقبة.
وفي العاشر من أيلول الجاري نقلت وكالة "سبوتنيك" الروسية عما وصفته بـ"مصدر ميداني"، توقعاته بأن تشتعل المعارك من جديد بين "الجيش السوري والمسلحين" جنوبي إدلب.
ونفى مصدر عسكري في غرفة عمليات "الفتح المبين" لموقع تلفزيون سوريا أن تكون هناك تحركات غير اعتيادية على جبهات محافظة إدلب، مشيراً إلى أن التصعيد يقتصر على عودة الطائرات الروسية للمشاركة بغارات محدودة جنوبي المحافظة، دون ملاحظة نشاط لوحدات المدفعية أو قوات النخبة، وهي عادة تكون مؤشرات مهمة على اقتراب اندلاع مواجهات برية.
وعلى الأرجح فإن التسريبات الروسية حول اقتراب موعد شن عملية عسكرية تأتي في سياق الضغط على الجانب التركي، وهذا الاحتمال الأقرب إلى الواقع لأسباب عسكرية وميدانية وسياسية واقتصادية.
دوافع التهديدات الروسية
يمكن تحديد جملة من الأسباب السياسية والاقتصادية تقف خلف تلويح روسيا بعملية عسكرية في محافظة إدلب، وفي مقدمتها الريبة من تبدلات في السياسة التركية.
القلق الروسي من التوجهات التركية الجديدة بدا واضحاً منذ قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، شهر حزيران الماضي، واللقاء الذي جمع الرئيسين التركي "أردوغان" والأميركي "بايدن"، وما سبقها من عقد صفقة بين تركيا وبولندا – إحدى بوابات التوتر بين دول الناتو وروسيا -، ثم بعد ذلك مشاركة طائرات تركية في الدوريات الهادفة إلى حماية الحدود البولندية مع روسيا، حيث بدت تلك الخطوات دلالات على انعطافة في السياسة التركية.
ودخلت أنقرة مع واشنطن في مفاوضات حول التنسيق للعمل في أفغانستان وتشغيل مطار كابُل، بعد القرار الأميركي بالانسحاب من هناك، بالتزامن مع ظهور تنسيق واضح بين الطرفين في شمال شرقي سوريا، تمثل في عدم معارضة واشنطن للغارات التي تستهدف كوادر حزب العمال الكردستاني.
وبحسب ما أكدت مصادر مطلعة لموقعنا فإن نقاشات تجري في الأوساط الأميركية حول إمكانية التوصل إلى تفاهم بين مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) والمناطق التي تسيطر عليها الفصائل المحسوبة على المعارضة السورية.
وعلى الصعيد الاقتصادي فإنّ روسيا تعمل على استعجال عودة الطرقات الدولية (M4 وM5) للعمل، لتعزيز المكاسب الاقتصادية الناجمة عن إعادة فتح معبر جابر/نصيب مع الأردن، لأن تدفق البضائع من أوروبا وتركيا عبر الطرقات الدولية سيتيح للنظام السوري زيادة عائداته من رسوم العبور باتجاه الأردن ودول الخليج العربي.
وتدرك روسيا خطورة استمرار إغلاق الطرقات وانعكاساتها على الحركة التجارية، وعلى عجلة الاقتصاد في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري والتي شهدت، خلال الشهرين الماضيين، فراراً لرؤوس الأموال، بالإضافة إلى هجرة الشبان باتجاه شمال غربي سوريا وشمال شرقها.
وعلم موقع تلفزيون سوريا من مصادر في مدينة حلب، أن العشرات من أصحاب رؤوس الأموال تركوا مدينتهم، ونجحوا بالوصول إلى مصر بسبب عدم قدرتهم على العمل في حلب، وأبرزهم شخصيات من عائلة "حنيفة"، التي تعمل منذ عدة عقود في مجال الصرافة والحوالات المالية، وتعتبر رافداً مهماً للأوراق النقدية في السوق.
وفي التاسع من أيلول الجاري، ألقى الأمن السياسي التابع للنظام، القبض على أكثر من 15 صناعياً وتاجراً حلبياً، قبل مغادرتهم الأراضي السورية باتجاه القاهرة، أبرزهم: محمود دملخي وعبد الكريم علبي.
جدوى العملية العسكرية
ما يعزز فرضية استبعاد العملية العسكرية والاقتصار على التصعيد الجوي الروسي بهدف الضغط، هو العائد المنخفض من عودة التصعيد بالنسبة لروسيا على الناحيتين السياسية والاقتصادية.
الأولوية الروسية في المرحلة الراهنة تتركّز على الحصول على مزيد من الثقة الدولية من أجل دعم مشاريع "إعادة التعافي"، وهذا الملف كان حاضراً على طاولة المبعوث الأممي للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث، الذي التقى وزير خارجية النظام السوري في أواخر آب الفائت.
وأعلن بسام طعمة وزير النفط في حكومة النظام، قبل يومين، جاهزية خط الغاز العربي لنقل الغاز من مصر إلى لبنان عبر الأراضي السورية، حيث ينص المقترح على حصول "النظام" على جزء من الغاز مقابل السماح بمروره إلى لبنان.
العودة إلى التصعيد العسكري من شأنه أن ينعكس سلباً على تعظيم المكتسبات الاقتصادية، وبالتالي يشكّل ضربة للجهود الروسية الهادفة إلى تحقيق المزيد من الاستقرار، بالإضافة إلى ذلك فإن المواجهات تعني بالضرورة إفساح المجال للميليشيات الإيرانية للتحرك بأريحية وفق ما تفرضه المعطيات العسكرية، وهذا من شأنه أن يضر بمحاولات بناء الثقة بين روسيا والدول الغربية التي ترغب بتعاون موسكو معها من أجل الضغط على إيران، وتقليل هامش مناورتها وقبولها بأن يتضمن الاتفاق النووي الجديد تحجيماً لدورها في المنطقة.
أيضاً فمن المستبعد أن تغامر روسيا بالصدام المباشر مع الجيش التركي المنتشر بكثافة شمال غربي سوريا، خاصة في الخاصرة الجنوبية لإدلب، حيث تحولت منطقة جبل الزاوية إلى ما تشبه الثكنة العسكرية للقوات التركية، لأن الصدام المباشر مع أنقرة من شأنه أن يدفعها إلى مزيد من الخطوات باتجاه واشنطن، وهذا سيناريو غير مرحب به بالنسبة لموسكو.
وفي ظل المعطيات الراهنة، فيمكن القول إن أقصى ما يمكن أن يحققه التصعيد الجوي الروسي هو الضغط على أنقرة عن طريق مفاقمة الوضع الإنساني من خلال دفع مزيد من النازحين باتجاه الحدود التركية، بالإضافة إلى أنه يعيق أي عملية دعم للتعافي المبكر في مناطق المعارضة الواقعة تحت النفوذ التركي لكونه يحولها إلى مناطق غير آمنة، وهذا قد يضمن لموسكو وقف حالة الهجرة باتجاه شمال غربي سوريا، ويدفع المجتمع الدولي لتركيز جهوده في مسألة "إعادة التعافي المبكر" باتجاه المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري بشكل أكبر.