"كل من زار الفرات صار ماء"..
هكذا نبدأ مع بطلة الرواية "ورد" وهي تشارك والدها الحديث عن ذكرياته الشعبية المتجذّرة على ضفاف الفرات، حيث الأحداث والتفاصيل الحميمة المخزونة في وجدان الابنة القادمة من دمشق، وهي متزوجة من "شيركو" الذي تعرّفت عليه وتزوجته بعد قصة حب دامت لخمس سنوات عاشاها أثناء دراستهما الجامعية معاً.
تزورهم لتأخذ جرعة حبٍ من والدها ووالدتها وجدتها "شهلا" التي تحبها وتتعلق بروحها الفراتية. تذهب ورد لتقيم في دمشق مع زوجها تاركة في عمقها بصمة لا تمحى من مهد ولادتها، وتقول:
“يلتقط المسافر تفاصيل لا تمر على المقيم بالأمكنة، لكل مكان ومدينة لون ورائحة لا لبس فيهما تعكسان ضورهما على الجدران والوجوه وشاخصات السفر” ص9.
تجتهد البطلة في مسايرة لقاءٍ لتجمّع نسائي حول تعديل بعض القوانين بالنسبة لحقوق المرأة، دعتها إليه صديقتها "هالة" في بيتها بدمشق.. لتبدأ الاقتراحات وتتشعب الأحاديث حول الحقوق والواجبات، واستقلال القضاء، والفساد، وتفاصيل دينية، وعادات بالية بحياتنا اليومية.. تقول: “لقد اكتشفت متعة أن تقول ما يخنقك كل يوم دفعة واحدة، ولمست بداخلي حنقا وثورة لم أعهدهما من قبل، وجدت جانباً مظلماً سلطت عليه الضوء دفعة واحدة” ص 19.
إلا أنها وهي تسرد لزوجها شيركو ما جرى تجده لامبالياً بل وغاضباً ورافضاً لفكرة هذه التجمعات التي يعتبرها ممنوعة وأنها لا تعرف عواقبها ولا تعرف عن المشاركات أي شيء، فقد تودي بها هذه الأمور إلى الجحيم. ورغم احتدام الموقف، تردّ ورد القوية والمتماسكة: "لا أحتاج إملاءات من أحد .. ما أرفضه سأقول عنه لا" ص 21.
البطلة عبر سياق الرواية تكشف لنا جانبها الثوري.. المتمرد على كل خطأ وعلى كل ما يعرقل أحلامها وتحاول ألا تكون ضمن إطار صنعته الذكورة والمجتمع رغم تماهيها مع الرجل واحترامها لفكره وعلاقتها الجيدة بزوجها. بعد ذلك تنقلنا لواقع مؤلم حين تتحدث عن ليلة سقوط بغداد عاصمة العراق وهي تتابع الحدث مع زوجها لساعات طويلة تترك المكان لترتاد أحد المطاعم مع زوجها على أمل أن تعود ليعلن التلفاز “ أن ما شاهدناه من قهر خمس ساعات لإعلان سقوط بغداد عاصمة العراق كان فيلماً رديئاً ويعتذر عن كل هذا القبح الموجه فجأة وبدفعة واحدة لأرواحنا ونحن أنصاف موتى “كان سقوطها أول حفرة يعبرها الشرق للخراب، أول فقد لإنسانيتنا، محكومة بلادنا بين الطغاة والغزاة" ص 24.
ثمة إدانة للحرب وتبعاتها وما رسخته في سبيل التعتيم على كل جمالياتنا وسحق قدراتنا النفسية والفكرية: “في الحروب الكبرى لا نجاة للفرد من دماره الداخلي كمتفرج بعيد، بطقس ديني أو بكفر مجنون اخترت الصمت الرمادي" ص 25.
بعد كل هذا الأسى الذي تمر فيه البطلة من مناظر تدمي القلب والروح للقتلى ولوحشية القتلة تعود لصدمة ذاتية وهي رؤيتها لشيركو مصطحبا صديقة له وقد اشترى لها باقة ورد كتلك التي كان يعود للبيت حاملاً عطرها ونبيذها لأجل زوجته. أي فجوة قام بفعلها؟ أي سكين غرزها في عمق حبهما وعلاقتهما وأحلامهما! هل كان هو حقا؟ً تسأل البائع فيؤكد إنه هو.
“تبتلع الخيانة قلوبنا إن لم نكسر منفضة السجائر أو جهاز التلفاز أو صمت الفاعل وتماديه بالمبررات التافهة، ارتديت اشمئزازي وكان المقاس بحجم الخيبة وهو جرس إنذار النهايات" ص30.
تقلص شعورها تجاهه وبقيت دلالات وجودهم مع بعض تأخذ مساراً مختلفاً، بارداً، قاتماً، يحدد ما سيحدث لاحقاً. "ورد" بطلة الرواية والأحداث والتأملات تعيش صراعاتها بقوة وثبات.. تعاند كل شيء كي لا تفلت حصانتها لحريتها وعقلانيتها وحرصها على الخروج منتصرة حتى في أشد الأزمات.. إنها ابنة الفرات المشبعة بالماء وترف البساطة والجمال وعشق الحياة. ورد أرادت أن تخوض مغامراتها وتعيد اكتشاف ذاتها وفي كل مرة تواجه المصاعب وتواكب مسار الضياع، وها هي البلاد تصحو على بركان كان يعد اللهب لسنوات خلت، وانفجر آذار دفعة واحدة بوجه الجميع دون استثناء.. "كنا أعداداً يتقاتل الجميع لكسب ودنا مقابل صمتنا وتجويعنا أو حتى قتلنا.. دخلنا في سبات أبله وصراع ينتهي بصلح بينما نحصي قتلانا من الطرفين ونوزعهم على علمين" ص 46.
تقرر في خضم الحرب السورية أن تذهب للفرات وتنقذ أهلها الذين شهدوا القتل والتعذيب للشباب وشراسة التهويل والتهليل لشعارات واهية. بطلاقها من شيركو لتتحرر من وجع الخيانة “ تقاسمنا هذا الخراب في العلاقة كما كنا نتقاسم قبلاً كل شيء" ص62.
كم نحن شعوب مخذولة ومسكينة.. نحاصر بعضنا بالانتماءات والسلاح.. نخاف من بعضنا.. نفقد الثقة.. لم يعد أحد يثق بأحد، الوشاية مرصودة بمبالغ ضخمة
في مرحلة جديدة من حياتها تقرر العمل في مكتبة رغم الحرب والحصار والخوف من المجهول، لكنها تتابع بعين العارف أن القادم أعظم.. أثناء عملها في المكتبة تتعرف على كاتب مسيحي “سعد كمال” لتنجو من علاقة تدخل بعلاقة.. وهكذا يتعارفان ويلتقيان ويقرران الزواج بعد فترة رغم اختلاف الدين بينهما وتثمر علاقتهما بجنين في بطن ورد لم ولن يحظى سعد برؤيته بسبب وشاية غير بريئة أدت إلى اعتقاله فيرسل لزوجته خبراً بضرورة مغادرة البلاد فهو لا يعرف إن كان سيخرج من ذلك المعتقل. وبالفعل تسافر ورد مع والديها مثقلة بالوجع والتعب والتشتت وتنتقل لبلاد أوروبية عبر قارب في البحر لتشهد أقسى رحيل لوالدتها حين يتقلب القارب على موج شديدي يؤدي إلى وقوع الوالدة في بحر يبتلعها لتغيب شيئاً فشيئاً عن مسرح واقع غير رحيم.
“صرنا مادة إعلامية للتسول وجمع الأموال على شرف موتنا، صارت الدعارة تدار على الهواء ببث مباشر لوجوه إعلامية وثقافية تهلهل على الجثث.. وللجثث أيضاً أحلام وحبيبات وقبلات مسروقة، حسابات إنترنيت مزينة بصورهم وهم بلحظة فرح وابتسامات" ص84.
كم نحن شعوب مخذولة ومسكينة.. نحاصر بعضنا بالانتماءات والسلاح.. نخاف من بعضنا.. نفقد الثقة.. لم يعد أحد يثق بأحد، الوشاية مرصودة بمبالغ ضخمة.. صدمها والدها حين قرر طوعاً أن ينكر ذاكرته ليعبر الألم بأقل الخسارات بروحه.. هل علينا النكران لما نحب كي نخفف عنا كل هذا الغيم الماطر في قلوبنا؟ يا للحروب كم هي قاسية ومحبطة ومهينة.
يخرج سعد معطوباً لا يعي إلا الخمر والتوهان.. ورد التي تعيش الغربة بكل أنواعها تحدثه عبر الهاتف من خلال سليم المصري ذلك الرجل المستفيد والذي يتاجر بمشاعر الناس ويستعمل كل الأساليب من أجل أن يكسب المال وقد استغل ورد وبدأ معها رحلة تواصلها مع زوجها الذي بدأ السجن يرسم موته ويقتل روحه خارج الأسوار لتعتقله رواسب الاتهامات والاعتقال.
يا لروح ورد كم ستصمد أمام كل هذه المواجهات وحدها في غفلة من الوقت تخسر معظم من تحب في ظل دوران حتمي لعجلة الحروب والظلم والعنف.. ها هو سليم المنافق الذي يبيع نفسه من أجل المال يريد ورد ويؤكد لها أن كل ما قام به من أجلها.. يا للتحولات.. يا للفجيعة.. “لم ينج من تمسك بوطنه ولا من هجره ولا من وافق على القوى الكبرى كوسيلة وحيدة للتغيير، حاول الكثيرون لعب دور عقلاني لكن العاصفة الحاصلة بشراسة بين سلطة أمنية وقوى تكفيرية حسمت الأمر بوسط رمادي يمثل كل من لا يصفق لإحدى الجهات، وبنفس الوقت هو ضحية الصراع، رومانسية المثقف بالطرح سدت كل الأبواب نحوها وبقيت تردد شعارات جوفاء ما عادت تقنع أحد منا بالخلاص" ص119.
عبّرت الكاتبة عن هواجس عديدة جريئة وحزينة كحال كل متضرر من الحروب.. وحدها الشعوب تحصد النتائج فاجعة وراء أخرى.. ورد القوية والتي أنجبت طفلتها شام.. شام التي لم تر والدها ولم تر وطنها ولم تر جدتها كيف لذاكرتها أن تتحصن من تلك الشروخات؟ ورد القوية والتي دافعت عن المرأة والحب والحياة ماذا ستقول لشام المهزومة بكل ما سبق؟ “أيستحق الأبناء كل هذا العناء؟ أن تهجر أحبتك وجدرانك؟ أن تتنازل عن ذكرياتك للعبور بهم نحو قارة دونها الغرق لتقف أمامهم خصماً بمحكمة؟ أيكتب لجيل الحرب الشقاء أينما رحلوا، أتختارهم الآلهة وفق زمن محدد لتطالهم اللعنة أينما فروا.. لن تسلم ممتلكاتك من الخراب باشتعال الحرب في بلادك.. لا تهرب، أنت محاصر أبدي" ص122.
لقد أثْرت الكاتبة روايتها بروح الإنسانة الحساسة، الشفافة التي تعالج جروحها باستمرار نسغ الحياة فيها. أدانت الحرب، إذ لا منتصر في الحروب.. لا يدّعي أحد الربح إلا من فقد ضميره أو شيئاً من وعيه. الرواية صرخة جديدة من صرخات الأدباء والشعراء الذين طحنتهم المواجع والمواقف والخيانات.. صرخة من أجل الحلم.. لأجل الإيمان بقضية عادلة قد تنجينا من عتمة الماضي وعبث الحاضر. تختم البطلة ورد روايتها قائلة: “البدوية بداخلي تشتهي رحيلاً معاكساً لمضارب ستزهر بأحلام كبرى غادرتها على عجل”.