من اللافت أن تفوز بجائزة البوكر العربية رواية بطلها الرئيسي الخبز، في ظل أزمة الخبز العالمية نتيجة الحرب الرّوسية على أوكرانيا، إنها رواية مثيرة للجدل على مستوى الموضوع، حيث تتناول الذّات الإنسانيّة المتشظّية بسب الموروث الاجتماعي؛ هي رواية تستحقّ الدّراسة لما تطرحه من أسئلة مثيرة للجدل.
المتن الحكائي للرّواية
في قرية بئر الحسين في ليبيا، يولد ميلاد في أسرة بسيطة، يعمل والده في صناعة الخبز، وينشأ بين أربعة أخوات وأمّه "فاطمة"، يعطيه والده أسرار الصّنعة، فيصبح من أفضل الخبّازين في ليبيا بشهادة العبسي "ابن عمه"، فكانت شخصيّتة تتراوح بين ليونة اكتسبها من محيطه الأنثوي، وبين مهارته الفريده في صناعة الخبز. يكتشف الأب أن ميلاد يساعد إخوته في الأعمال المنزليّة فيعاقبه، ثم يُرسَل إلى الجيش حتى يكتسب معاني الرجولة.
في الجيش يتعرض لشتّى أصناف الإهانة من قبل المادونا "رتبة عسكرية"، وحاول الهرب لكنّه لم يفلح، ثم عاد من الجيش كما ذهب. ميلاد الرّقيق الجميل الذي يستمع إلى أحمد فكرون وعمرو ذياب، وبعد وفاة والده استولى عمّه على حصّته في المخبز، وهكذا أصبح ميلاد عاطلاً عن العمل. تزوج زينب رفيقة طفولته بعد العديد من المغامرات الجسديّة بينهما، وبسبب بطالته انقلبت الأدوار بينهما فأصبح يقوم بأعمال البيت وهي تعمل خارجه.
بدأت النّاس تتحدث عن رجولة ميلاد المفقودة ولكنه كان يغضّ النّظر إلى اللّحظة التي قال فيها عبسي إن النّاس تقول عنه "عائلة وخالها ميلاد" وهو مَثل ليبيّ يقال عن الشّخص فاقد السّيطرة على نساء عائلته. فبدأ يحاول استعادة رجولته لكنّه فشل في كلّ المحاولات. أوصل له العبسي معلومة أن زوجته تواعد المدير العام للمؤسّسة التي تعمل بها في إحدى مقاهي المثقفين، فراقبها وتأكّد من صحّة الخبر. وبعد مشادّة كلاميّة بينهما ورفضها الإفصاح عن ماهيّة تلك العلاقة حاول الانتحار عبر القفز من سطح المنزل.
تعرّف ميلاد على المدام مريم وهي زميلة زوجته زينب، وبدأ العمل عندها بتعليمها كيفيّة صناعة الخبز، لتنشأ بينهما علاقة. وسرّبت له المدام بعض المعلومات عن العلاقة المعقّدة التي تجمع بين زوجته والمدير العام، لكنه كذّبها وكذلك كذّب العبسي.
تتزاحم الأفكار بذهن ميلاد المضطّرب فيراقب زوجته ويجدها تواعد المدير العام في شقّة عمّها المتوفَى، فيتخيّل مشهد لقائها الجسدي مع المدير البدين بتفاصيله الدّقيقة لتنتهي الرّواية على حادثة قتله لزينب.
الارتباط الوثيق بين المكان والشّخصيات في الرّواية
نبدأ الرّواية بإهداء مميز "إلى نفسي، أهديك هذه الرّواية"، وهي علامة على تقدير الذّات لشاب في الثلاثينيات من عمره يحصل على جائزة البوكر على عمله الرّوائي الأول.
تتوزع الرّواية على ستة فصول، وكل فصل يبدأ باسم المكان الذي تدور فيه الأحداث، فالمكان يختار الشّخصيات ويضع لمساته على الأحداث ليخلق القصص والحكايات ثم يغلّفها بمثل شعبيّ ليبيّ، ففي الفصل الأول: المخبز "عيلة وخالها ميلاد" يتعلّم من والده أسرار الصّنعة ويتقنها، وفي فصل المعسكر "تعيش يوماً ديكاً ولا عشرة دجاجة" يحاولون تعليمه الفحولة، وفي دار غزالة "الفرس على راكبها" تبدأ أزمة البطل بالظهور من خلال انقلاب الأدوار بينه وبين زوجته، وفي فصل بيت العائلة "البنات زريعة إبليس" تتبلور أزمات البطل ويحاول الانتحار، وفي البرّاكة "اضرب القطوسة تتربى العروسة"، يموت العم الظالم ويسافر العبسي، أي تزول أزمات البطل الخارجية، وفي فصل المطبخ "الرّاجل ما يعيبه شي" يبدأ بتعليم الخبز للمدام مريم.
وما بين المخبز "فضاء تعلم صناعة الخبز" والمطبخ "فضاء تعليم صناعة الخبز" تدور أحداث الرّواية الشيقة، فالمخبز هو بداية الحكاية؛ المكان الذي يجمع ويربط بين أغلب شخصيات الرّواية (ميلاد والأب والعم والعبسي)، وفي المطبخ نهاية الحكاية؛ نهاية الأحداث ونتيجة المقدمات التي أثرت بالبطل في كل الفصول، لينتهي الفصل بإراقة دم زينب على أرضية المطبخ.
ملاحظات النّقاد على الرّواية
شخصية ميلاد شخصية مهزوزة تغلب عليها الصّفات الأنثوية بحكم التّربية، مطحونة في مجتمع ذكوريّ. لذلك وجد بعض النقّاد أن هذه المقدمات لا تتناسب مع نهاية الرّواية بقتله زينب امتثالا للمقولات الاجتماعية التي كان يقاومها طوال فصول الرّواية، كما عاب البعض الإسراف الشّديد من قبل الرّوائي باستخدام ألفاظ نابية إضافة إلى ارتكاب المحرمات بطريقة تبدو وكأنها معتادة وسائدة في المجتمع اللّيبي كشرب الخمر والكثير من المحاذير الدّينية.
وصل الأمر بالبعض إلى إتهام كاتب الرّواية بالّتطبيع مع إسرائيل من خلال زيارة بطل الرّواية لبيت "بنيامين" في مدينة جربة التّونسيّة خصوصاً أن حديث ميلاد الدّاخلي كان يتحدث عن القضيّة الفلسطينية: "شعرت وكأنّني أخون القضيّة الفلسطينيّة".
الرد على الانتقادات
بداية لا بد من التّوضيح أن الرّواية تنتمي إلى أحد اتجاهات الحركات التّجديدية لفن القصّة، وهو "الواقعيّة البنائية" (وهو أسلوب التّعبير عن القبح في استخدام الكلمات والجمل العادية الشّائعة على ألسنة العامة، والتي يأنف منها الحسّ البرجوازي المتأنّق)[1]. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الاتّجاه يحاول أن يبحث عن القبح بالمجتمعات ليصوّره وأحياناً ليضخّمه، لكن المدافعين عن هذا الاتّجاه يرون هذا التّوجه يعري المجتمع ويظهر خفاياه.
وفقا لهذا المنطق، يرى كتّاب الواقعيّة البنائية أن استخدام الكلمات النّابية، وحتّى المشاهد الجنسيّة، وكلّ ما يندرج تحت مصطلح "منافٍ للحشمة" مسموح ومباح طالما أنه منسجم مع الحياة الرّوائية ولا يتم إقحامه في النّص الروائي دون ضرورة فنية. أما عن التّطبيع فالرّواية لم تطبّع بالمفهوم السّياسي إنما هو لقاء مع شخصيّة يهوديّة تونسيّة ولم يلاحظ أنها تحدّثت عن كيان الاحتلال الإسرائيلي.
رمزيّة الخبز في الرّواية
الرّواية كلّها يمكن تلخيصها بمشهد واحد وهو مشهد حوار بين ميلاد وأبيه عن كيفيّة صناعة الخبز:
"لديك أربعة مكونات، يمكنك أن تصنع بها العجائب، كل ما تحتاج إليه دقيق، ماء، خميرة وبعض من الملح، فقط. كيف؟ السّر يقع هنا.. وأشار إلى قلبه. وهنا، وأشار إلى عقله. وهنا، وأشار إلى يديه. أمّا العقل واليدان، فيمكن لألف خبّاز أن يستخدموا الطّريقة ذاتها، وبالتفاصيل ذاتها، إلا أنّك ستجد نفسك تفضّل خبزاً على آخر. ما السّر؟ القلب يا ميلاد، الحب هو المكوّن الخامس. ما هو المكون السّادس؟ إنّه الهواء الذي نتنفّس، فالخبز في مرحلة العجين كائن حي مثلنا، يتنفس، ثمّة مكوّن سريّ، هل يمكنك التّخمين؟ إنّه الوقت، لكل نوع من أنواع الخبز وقت معيّن ليصنع الطّعم داخله. هل هناك المزيد؟ شيء واحد فقط، لكل نوع من أنواع الخبز مقادير معيّنة"[2].
ووفقا لمنطق هذا المشهد البديع فإنّ المخبز؛ كناية عن المنظومات الاجتماعية والسّياسية والثّقافية التي تعيد تصنيع الإنسان وفقا لما تريد، فصناعة الخبز لها عمق وجودي يتعلق بعمليّة الخلق" الصّنع" فهناك صانع وهو الخبّاز وهناك عجينة ليّنة سهلة الانقياد والتّشكل، الخبّاز الذي قد يكون سلطة اجتماعيّة أو سياسيّة وعجينة الخبز هي الإنسان الذي يخبز وفقا لرغبة تلك السلطات.
فنحن كمجتمعات نُخبز ونتخلّق وفقا للعادات والتّقاليد ووفقا للسّلطة ووفقا للرّأي الدّيني السّائد، فهناك دائما من يعتبرنا عجينة ليّنة سهلة التّشكل والتّصنيع؛ ليصنع منا ما يريد باستخدام نفس المكوّنات التي ذكرها أبو ميلاد لصناعة الخبز، فعندما أشار إلى قلبه فهو يقول لنا إننا قد نصنع بحب أو حقد بحسب الخبّاز؛ فيصنع مجتمعات متمدّنة أو مجتمعات طائفية متخلّفة.
ختاماً؛ لا بدّ من الاعتراف أن رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" كتبت ببراعة قصصيّة فريدة وفن سرديّ متقن، فهي رواية تحلّل وتسلّط الضّوء على صراعات وعيوب المجتمع دون خطابية، ومن الطبيعي التحفّظ على بعض الألفاظ والمشاهد الخادشة والتي كان من الممكن تضمين معانيها دون مباشرة وبما لا يخل بجماليات الرّواية، وهي ككل الّروايات لا تخلو من بعض التّرهلات والعيوب التي لا تؤثّر على متعة القراءة.