الاستبداد ما إن يحكم حتّى يدعم نفسه بأنواع القوّات، يقول الكواكبي: "الاستبداد محفوف بأنواع القوّات التي فيها قوّة الإرهاب بالعظمة وقوة الجند، لاسيّما إذا كان الجند غريب الجنس؛ وقوّة المال، وقوّة الألفة على القسوة، وقوّة رجال الدين، وقوّة أهل الثروات، وقوّة الأنصار من الأجانب"، فهو لا يكتفي بالوصول إلى دفّة الحكم وحسب، وإنمّا يدفعه الخوف الذي يعتريه، لعلمه بلا مشروعية سلطته؛ إلى السعي للحصول على الوسائل التي توطّد حكمه.
- المال والأجانب
إنّ لدى الاستبداد قوّة المال، حيث تتم الاستعانة بأصحاب الثروات "الأغنياء.. هم ربائط المستبد.. ولهذا يرسخ الذل في الأمم التي يكثر أغنياؤها" الذين من مصلحتهم أن يرسخ حكم الاستبداد ويبقى الوضع على ما هو عليه من فساد، فتتحوّل الثروة إلى دعامة من دعائم الاستبداد، ويصبح "المال هو مصدر الامتياز ومقياس الاحترام وأساس تولّي السلطة"، ويشتري صاحب الثروة المنصب الذي يستطيع أن يدفع ثمنه. ويباشر الحكّام الاعتماد على الأجانب الذين لا يعنيهم سوى أن ينهبوا ثروات الشعوب.
- الجهل والجيش
يدعم الاستبداد نفسه بقوّة الإرهاب الذي يعتمد على الجند، وعلى حاشية كبيرة من المنتفعين الذي ألِفوا ممارسة القسوة، يسخّرهم في التبشير بحكمه عن طريق إرهاب الناس ومحاربة العلم والعلماء. فلا يخاف الاستبداد على حكمه مادام بإمكانه الاعتماد على "جهالة الأمة، والجنود المنظمة" حيث يبني مملكته في ظل الأمة التي يقودها جهلها إلى الخوف من عظمته المصطنعة. يورد الكواكبي ما قاله أحد المحررين السياسيين من وصفٍ لِمَا يلّوح به المستبد من إرهاب يكتنف مجتمع الاستبداد: "إنّي أرى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه: فالملك الجبّار هو المعبود، وأعوانه هم الكهنة، ومكتبته هي المذبح المقدّس، والأقلام هي السكاكين، وعبارات التعظيم هي الصلوات والناس هم الأسرى الذين يقدّمون قرابين الخوف". والخوف مصدره الجهل والجند، حيث يشكّل العسكر جداراً من الهيبة في وجه البسطاء الذين مع خوفهم واستيائهم، ينجذبون إلى التباهي بعظمة الدولة، ويصبح واحدهم يتفاخر بأنّه أحد خُدّامها "حتّى صار الفلاح التعيس منها يؤخذ للجندية وهو يبكي، فلا يكاد يلبس كُم السترة العسكرية إلاّ ويتلبّس بشرّ الأخلاق فيتنمّر على أمّه وأبيه، ويتمرّد على أهل قريته وذويه، ويكظّ أسنانه عطشاً للدماء لا يميّز بين أخ أو عدو.
ولا يرى الكواكبي من الجندية إلاّ جانبها السلبي، فليست هي المُدافع عن حدود الوطن، ولا حامية حقوق الأمة، وإنّما هي بلاء في بلاء يحرّكها المستبد كيفما يشاء. يصف الكواكبي وظيفتها قائلاً: "وأما الجنديّة فتفسد أخلاق الأمة حيث تعلّمها الشراسة والطاعة العمياء، والاتكال، وتُميت النشاط وفكرة الاستقلال وتكلّف الأمة الإنفاق الذي لا يُطاق، وكلّ ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم" فما هي إلاّ مفسدة أخلاق، ومَضيعة أموال، ومَحرس استبداد.
- الأصلاء والمتمجّدون
المستبدّون يعتمدون أيضاً على الأصلاء "العريقين في خدمة الاستبداد الوارثين من آبائهم وأجدادهم الأخلاق المُرْضية للمستبدّين"، إنّهم يركّزون على مساعدة بيوت الظلم والإمارة الذين هم "مطمح نظر المستبد في الاستعانة وموضع ثقته، وهم الجند الذي يجتمع تحت لوائه بسهولة". والمستبد حتى يكسب الأصلاء إلى صفّه فإنّه يستعمل معهم "سياسة الشد والإرخاء، والمنع والإعطاء، والالتفات والإغضاء لكي لا يبطروا" فيعينهم طالما كانوا على طاعته، ومتى لمح في أحدهم بوادر التمرّد عمد إلى إذلاله ليكسر شوكته أمام الناس. "والحاصل أنّ المستبد يذلل الأصلاء بكل وسيلة حتى يجعلهم مترامين دائماً بين رجليه كي يتخذهم لجاماً لتذليل الرعية، ويستعمل عين هذه السياسة مع العلماء ورؤساء الأديان"، فهو لا يتوانى عن استخدام كلّ من يلحظ أن له كرامة واحتراماً عند الناس ليسهل عليه بعد ذلك ترهيب العوام. ويدرّ المال على الأصلاء والعلماء ورؤساء الأديان ويعينهم على تنمية خصلة التسلّط على الناس "ليتلهّوا بذلك عن مقاومة استبداده، ولأجل أن يألفوها مديداً فتفسد أخلاقهم فينفر منهم الناس ولا يبقى لهم ملجأ غير بابه فيصيرون أعواناً له" ويحاول الناس من غير الأصلاء التشبّه بالأصلاء لينالوا ما لهؤلاء من حظوة فتنتشر نغمة التمجّد، الذي يعرّفه الكواكبي بقوله: "هو أن يصير الإنسان مستبدّاً صغيراً في كنف المستبد الأعظم"، يغلّط أفكار الناس في حق المستبد، محاولاً إبعادهم عن اعتقاد أنّ من شأن المستبد الظلم. "وهكذا يكون المتمجدون أعداء للعدل أنصاراً للجور". ويحاول المستبد الإكثار منهم ليعينوه على ما هو فيه من استبداد، لأنّه بمفرده لا قدرة له على إلجام الناس جميعاً، وإنمّا هو يوجِد مستبّدين صغاراً تكون مصالحهم متساوقة ومصلحته في ظلم الناس "إن المستبد فرد عاجز لا حول له ولا قوة إلا بالمتمجّدين" الذين يحرصون على استمرار الاستبداد لتستمر قدرتهم على التسلّط والسرقة من غير مساءلة من أحد.
كما أنّ المستبد يعمل على توظيف المنافقين المتملّقين في وظائف الوعظ والإرشاد والدوائر التي لها صلة مباشرة بالشعب ليضمن ألاّ يتنّور الشعب. فهو يعلم أن هؤلاء الوعّاظ لا يهمهم إرشاد الشعب إلى نور الحق، فضلاً عن أنهم إذا ما فكّروا يوماً في إثارة العقول، فإنّ أحداً لن يسمعهم لأنّه لا ثقة لأحد فيهم. وذلك كلّه لكي تكتمل حصون الاستبداد بربط العقول وفساد الإيمان وانعدام الحرّية.
- متلقّوا الاستبداد
إنّ أقوى الدعائم التي يستند إليها الاستبداد هم الأسرى أنفسهم، إذ لا يمكن لأحد أن يستبدّ بالحكم مالم يرَ تراخياً من جهة الآخرين، الذين يحجب الكسلُ عنهم إدراك واجب المشاركة في الأمور العامة، فتشيع اللامبالاة بينهم، يحصدون ثمرة ما زرعوه، فلا يجنون سوى الاستبداد. يقول الكواكبي على لسان (المجتهد التبريزي): "ويلوح لي أن انحطاطنا من أنفسنا، إذ أنّنا كنا [...] نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، أمرنا شورى بيننا، نتعاون على البرّ والتقوى ولا نتعاون على الإثم والعدوان، فتركنا ذلك كلّه ما صعب منه وما هان". إن فتور همة المقهورين، إذاً، أحد أسباب وقوعهم في هذا القهر.
هكذا يحمّل الكواكبي الأسرى مسؤولية تقاعسهم. "الاستبداد أعظم بلاء، يتعجّل الله به الانتقام من عباده الخاملين". الذين يظنّون أنهم يحوزون السلامة إذا ابتعدوا عن مواجهة المستبد. والمستبد بدوره، يزداد عجرفة مادام يرى الناس يلوذون في الجحور. إنّ "المستبد يتجاوز الحد مالم ير حاجزاً من حديد، فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفاً لَمَا أقدم على الظلم". وحيث تكون العلاقات الاجتماعية، بين أفراد المجتمع، علاقات تناحريّة، يحاول كلّ منهم أن يكسب ماله وما لغيره، لابُدّ وأن يظهر من بينهم من يرفع كلّ حياء، ويحجب كلّ قيمة، فيصبح سيّد الغابة. "إن الله عادل مطلق لا يظلم أحداً، فلا يولّي المستبد إلاّ على المستبدّين". فالمستبد ليس إلاّ واحداً من أفراد المجتمع. إنّه ابنٌ لهذا الشعب.. من بطون أمهاته خرج، وتعلّم في (سوقه) أصول (السيادة) التي لا تتعدى أن تكون: البطش، والبطش، ثم البطش، بكل من يقف في وجه الرغبات. إنّه يجمع مساوئ المجتمع كلّها في شخصه، أولاً، ثم، وبعد أن يصبح هو صاحب الكلمة الأولى، بل الوحيدة، يعود إلى تعميق تلك المساوئ وترسيخها، وحتى إضافة مالم يكن فيها إليها، معتمداً على سذاجة العوام وطيبتهم. وفي النهاية يصل الكواكبي إلى قناعة هي أنّ "العوام هم قوّة المستبد وقوته. بهم عليهم يصول ويطول"، ولولا جهلهم وخوفهم واستكانتهم لما قامت للاستبداد قائمة.
* * *
- خاتمة
يُلاحَظ من المعطيات المطروحة فيما تقدّم أن الاستبداد الديني، لدى الكواكبي، ما هو إلا استبداد بعض رجال الدين، بينما الأديان بريئة من كل ما يُنسب إليها من استبداد. إنّ الأديان تدعو إلى السلام والمحبّة والإخاء، وتحثّ على التعاون، وعلى إتيان الخير لصالح الإنسان. وما الاستبداد الذي يُمارس باسمها إذاً سوى استبداد فكري – نفسي يستغل ما في قلوب الناس من إجلال لتعاليم الديانات ليتمكن من الاستحواذ على عقولهم وقلوبهم معاً. ويتدخّل السياسي، القادم من (الثري/ الأصيل/ المتعمّم) مستعيناً بالإيديولوجية التي فرضها رجال الدين المزيَّفون، يستخدم هؤلاء المتعالمين ليستبدّ بالسلطة السياسية. ولأنّ السياسي يعرف مدى احترام الناس لما يُطرح باسم الدين، فإنه يستخدم بعض المفردات الدينية لتحقيق أغراضه الدنيوية الخاصّة. ويتكئ الاستبداد السياسي على الاستبداد الديني، ويتعاونان معاً على قهر العامّة. إنّ الاستبدادين ينشأان متساوقين، يعين كلٌّ منهما الآخر، ويسود السياسي الذي يملك قوّة الجيش القاهرة.
إنّ تداخلاً عميقاً يُلاحظ بين كلٍّ من الاستبدادين: الديني والسياسي، لكنَّ السياسة لا تستبد، كما أن الدين لا يمارس استبداداً. إنّ المفاهيم أو القوانين أو القيم لا يمكنها مطلقاً أن تمارس أيّ استبداد. إنّ الاستبداد يأتي دائماً من شخص يقوم به ويفرضه بالقوّة على الآخرين مستغلاًّ غفلتهم وتكاسلهم واستكانتهم. إنّه يستبد مستنداً إلى نقاط الضعف في النفس البشريّة، ويعزز مرتكزاته بأساليب القوة غير الشرعية، ويصطنع أهدافاً مشتركة بينه وبين الجند، والمتعممين، والمتعالمين، والمتمجدين، والأصلاء، والأثرياء. كما أنّه، بمساعدة من هؤلاء، يكوّن التفافاً على الجماهير ليقنع العامة، بالتسويغ أو بالسيف، بأنّه رمز الوطن، وأنّ الحفاظ عليه يجب أن يكون هدف الجميع.
ذلك كلّه يساعد على تشويش العقول وزعزعة الإيمان بالمبادئ، ممّا يؤدي إلى تردّي الأخلاق والاستعاضة عنها بالسنن التي يضعها المستبد للاحتذاء بها. فيصبح المبدأ الوحيد الذي ينبغي تحقيقه هو مبدأ الاستبداد، فينقلب الناس إلى مستبدّين صغار في كنف المستبد الكبير، وتنتشر العلاقات الاستبداديّة بينهم ممّا يساعد على نشوء الاستبداد ودعم بقائه، مادام المقهورون أنفسهم قد دخلوا في دائرة التبشير به من حيث لا يعلمون.