لا يرتبط رأس المال بالمعنى المادي- الاقتصادي؛ فرأس المال الثقافي هو مصطلح يستخدم في علم الاجتماع، حيث يتكوَّن من المعرفة والمهارات والتعليم ومجموعة من الخبرات الفنية والأدبية والعادات والتقاليد التي يمتلكها فرد أو مجتمع، ومن ثمَّ يتمُّ توظيفها لتطوير الذات الفردية، وتفعيل المشاركة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وتطوير القدرة على التفكير النقدي والنجاح في المجتمع، وبالتالي فهذا يعني أنَّ مصطلح (رأس المال الثقافي) قد خرج من عباءة المصطلح الأوسع (رأس المال الاجتماعي)، فهو جزء مهم يشير إلى التنوع البشري والتفاوتات الاجتماعية والطبقية، بحيث تمكِّن الأفراد الذين يمتلكون رأس المال الثقافي من الحصول على فرص مميزة تعليمية ومهنية.
ويعدُّ عالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو" أوَّل من استخدم مصطلح رأس المال الثقافي، وقد استخدم هذا المصطلح بوصفه محرِّكاً يمنح الفرد قوة اجتماعية داخل الفضاء الاجتماعي المحيط به، سواء أكانت هذه القوة الفردية موروثة من خلال ما يحوزه الفرد من عملية التنشئة الاجتماعية (اللغة، أنماط التفكير، نظم المعاني) أو مكتسبة من خلال التعلُّم والممارسة.
ولكن كيف يمكن أن يكون رأس المال الثقافي وسيلة تضامنية داخل المجتمعات؟
لمعرفة الآلية الصحيحة لتوظيف رأس المال الثقافي بين أفراد المجتمع لا بدَّ من الحديث عن ثلاث مراحل يتعيَّن تطبيقها للوصول الصحيح إلى نتيجة فاعلة قادرة على خلق روح اجتماعية وثقافية، وهي:
- المرحلة الأولى: الحالة الفردية، إنَّ تنمية ثقافة الفرد تساهم برفع وعيه الذاتي بعد العمل على تنمية مكتسباته الثقافية، فلا بدَّ للفرد من بذل جهوده للارتقاء بوعيه وتنمية ذاته، لتتحول معارفه مع الوقت والجهد إلى جزء رئيس ومكون أساسي من هويته، الأمر الذي يجعل التعامل مع الفرد أكثر فاعلية وإنتاجية، بوصفه لبنة أساسية في أيِّ مجتمع؛ لأنَّ الحوار والتواصل سمة تميز المجتمع الذي تتسع فيه قاعدة الفرد الذي يعدُّ مالكاً لرأس المال الثقافي، ذلك أنَّه يمكِّنه من المساهمة في تعزيز التراث الثقافي وتعزيز الهوية الثقافية للأفراد والمجتمع، وهي حاجة أساسية للفرد الذي تبدأ منه أي عملية بناء حقيقي للمجتمع.
مفهوم رأس المال الثقافي يشير إلى الاستثمار في الثقافة بوصفها رأساً للمال يُمكن أن تعود على الفرد بالربح والفائدة
- المرحلة الثانية: الحالة الموضوعية، وتعبِّر عنها مجموعة الرموز الثقافية الممثِّلة لثقافة جماعة بشرية معينة، فهي العناصر التي تحمل معاني ثقافية وتعبيرات فنية وتراثية، وتستخدم لنقل القيم والمعلومات وتبادلها بين الثقافات المختلفة، وتعبِّر عن هوية الشعب (كالكتب والأدب، والفنون التشكيلية، الملابس والزينة التقليدية، والمهرجانات، والرقص، والمأكولات، ...وغيرها)، وهذا ما يشكِّل جسراً يصل بين رأس المال الثقافي المتمثِّل بالأشياء المادية المجسدة لروح الشعب وبين الوعي الشعبي بوصفه قوة اجتماعية، وهي عوامل قادرة على خلق حالة من الوحدة بين أفراد الشعب وتعزيز قوته، أي خلق حالة من التضامن الشعبي، وهي مسألة ضرورية للحفاظ على وحدة الشعوب عبر توظيف النوستالجيا بصورة إيجابية.
- المرحلة الثالثة: الهابيتوس، وهو المصطلح الذي صاغه "بورديو" للتوليف بين الحالة الذاتية والحالة الموضوعية، فثمة علاقة جدلية بين الموضوعية والذاتية، وهذا ما يستلزم إزالة أي التباس يحيط بهما، وخلق حالة توليفية بينهما، يقول بورديو في كتابه (أشكال رأس المال، 1986م): "لقد طوَّرت مفهوم الهابيتوس للدمج بين البنى الموضوعية للمجتمع والأدوار الذاتية للأفراد الذين يعيشون فيه، إنَّ الهابيتوس هو مجموعة من الاستعدادات وصور من السلوك يكتسبها الأفراد من خلال التفاعل في المجتمع، ويعكس المفهوم مختلف الأوضاع التي يشغلها الناس في مجتمعهم"، وبذلك يكون الهابيتوس مجموعة من الاستعدادات الجسدية والذهنية المترتبة على عملية التنشئة الاجتماعية للفرد، بحيث تجعل من الفرد فاعلاً اجتماعياً في حقل اجتماعي معيّن، فهو يلعب دور الوسيط بين البنى الموضوعية والممارسات؛ لأنَّ وظيفته تتحدد بتجاوز التعارض بين الوعي واللاوعي، وبالتالي خلق بنى معرفية وإدراكية مندمجة تساهم في تطوير بيئة اجتماعية فاعلة.
وتُشير "إليزابيث سيلفا Elizabeth Silva" إلى أنَّ مفهوم رأس المال الثقافي يشير إلى الاستثمار في الثقافة بوصفها رأساً للمال، يُمكن أن تعود على الفرد بالربح والفائدة، كما يُمكنها نقل هذا النوع من رأس المال عبر عمليات التنشئة الاجتماعية التي تتم داخل الأسرة والنظام التعليمي، وهذا يدفعنا إلى الإشارة إلى حالة الترابط بين رأس المال الثقافي ورأس المال الاجتماعي؛ ذلك أنهما يعملان معًا على تعزيز التواصل، والتضامن، وبناء المجتمعات القوية والمترابطة عبر بناء ثقافة مشتركة وهوية مجتمعية، وتعزيز ثقافة الحوار بين أفراد المجتمع، ممَّا يعزز من فهم الآخر وتحسين العلاقات الاجتماعية، فكلٌّ من الرأسين - الثقافي والاجتماعي - يمكن أن يسهما في تحقيق التغيير الاجتماعي، وتبادل الأفكار والمعرفة والدعم من خلال الشبكات الاجتماعية، ممَّا يؤثر إيجابياً على تحولات المجتمع.
ختاماً، إنَّ تراتبية العمل الثقافي، ومروره بمراحل تطورية يجعل من الثقافة نسقاً رمزياً يشكِّل وسيلة قوة اجتماعية وسياسية؛ لخلق مجتمع ثقافي ديمقراطي متجانس، يقبل بحرية الرأي، وحق الاختلاف، ويحول دون السيطرة على حقل الثقافة، لتبقى ملكاً جمعياً، ولتكون وسيلة تضامنية بين الأفراد، ولكن هل يمتلك أفراد المجتمع الاستعداد والجاهزية للبناء الاجتماعي على رأس مال ثقافي يكون قاعدة لبناء هوية شاملة؟