دولة الأسد وإنتاج الفساد

2024.06.13 | 06:08 دمشق

4444444466666656
+A
حجم الخط
-A

ليس الفساد ظاهرة جديدة في سوريا، وتم التأسيس لها منذ السنوات الأولى لدولة الأسد الأب، عبر تهميش دور المؤسسات لصالح الحزب والأمن والجيش، ومن ثم العائلة والطائفة والمقربون منهما.

وفي مراحل لاحقة، مع تزايد الاحتقان الأمني للنظام اعتباراً من نهاية السبعينات على ضوء الصدامات مع جماعة الإخوان المسلمين، أخذ تدهور المؤسسات منحى جديداً، بعد أن استنفرت الدولة كلها، وجيرت للدفاع عن النظام، وبات التجاوز على الدولة والمؤسسات، هو القاعدة، بحجة الظروف الاستثنائية، ومواجهة الخطر المحدق.

والواقع أن الممارسات التي سادت خلال الثمانينات من جهة النظام وأجهزته تجاه الدولة والمجتمع، ظلت فيما بعد هي السمة الأبرز لهذا النظام، وعليها أُسست النقمة الشعبية على النظام، الذي بات يعرف كقائد لدولة أمنية طائفية، بعيدة عن القانون، أو حتى عن أي عرف محلي مما يحكم المجتمعات ما قبل الدولة، مثل العشيرة أو الدين أو الأعراف والتقاليد.

وتسلم بشار الأسد "الدولة" وهي خالية الوفاض من كل ناظم قانوني أو أخلاقي جدي، حيث التجاوز على الدولة والقانون، هو القاعدة، ما شكل بيئة خصبة لنمو كل أشكال الفساد، وعلى كل المستويات.

مرت السنوات العشر الأولى من حكم بشار دون تمكن النظام من بناء منظومة قانونية وأخلاقية سليمة في مواجهة الفساد المتنامي.

الكفاءة والنزاهة لا يجتمعان في دولة الأسد 

وفي هذا السياق، أذكر حادثة وقعت معي قبل وفاة حافظ الأسد بعد أشهر، حيث استدعاني اللواء بهجت سليمان (كان عميدا وقتها) إلى مكتبه في دمشق، حيث كان على رأس فرع الأمن الداخلي، وهو بحكم منصبه وقرابته مع عائلة الأسد، كان يتولى آنذاك إعداد بشار الأسد لتسلم الرئاسة خلفا لأبيه المريض. سبب الاستدعاء كان مقالة انتقادية كتبتها آنذاك في إحدى الصحف اللبنانية، وكانت سياسته تقوم على محاولة استقطاب من يعتبرهم مثقفين، وتجنيدهم في خدمة الرئيس القادم بشار الأسد.

ومما قاله سليمان في ذلك اللقاء أنهم يواجهون مشكلة في اختيار الأشخاص لتولي المناصب الحكومية، فإما يكون الشخص الذي يقع عليه الاختيار صاحب كفاءة، لكنه فاسد، أو يكون نزيها، لكنه محدود الكفاءة، وهم يقعون في حيرة بين هذين النموذجين كمال قال.

وكان ردي عليه أنه إذا كان الواقع كذلك فعلا، فهذه مشكلة كبيرة، ولا يعقل أن دولة مثل سوريا، لا يوجد فيها كفاءات نزيهة، ما يعني وجود خلل كبير في آلية عمل الدولة التي لا تبني أفرادها على أسس سليمة، ما جعل مؤسسات الدولة طاردة للكفاءات والشرفاء، وجاذبة للصوص ومحدودي الكفاءة.

وطبعا مرت السنوات العشر الأولى من حكم بشار دون تمكن النظام من بناء منظومة قانونية وأخلاقية سليمة في مواجهة الفساد المتنامي، والذي بدأ يأخذ شكلاً منظماً، تقوده رموز من السلطة مثل رامي مخلوف، وطبقة رجال الأعمال المتداخلين مع السلطة، فيما انعقدت شراكة شبه معلنة بين هؤلاء وكبار ضباط ومسؤولي النظام الذين دفع كثيرا منهم بأولادهم إلى عالم البزنس من البوابات غير الشرعية، مستغلين مناصبهم ونفوذهم.

اليوم بعد 13 عاماً من الثورة، لم يتغير شيء، ولم يغير النظام من آليات عمله المنتجة للفساد، بل بات هذا الفساد هو الوسيلة المعتمدة لدى النظام نفسه لتحصيل الدخل سواء عبر تجارة المخدرات أم حواجز التشليح.

اتحاد الفساد والسلطة

وجاءت أحداث الثورة السورية بعد العام 2011، لتفتح أبواباً جديدة للفساد، تحت وطأة الضغوط التي عاش تحتها النظام، وبات الفاسدون في الداخل هم الذراع الأساسية التي يقاتل بها النظام خصومه، ليستغل هؤلاء بدورهم حاجة النظام إليهم، ويعاظموا ثرواتهم بترخيص من السلطة كمكافأة لهم على وقوفهم إلى جانبها، وتمويلهم قواتها وشبيحتها.

وطبعاً، كثير من أبواب النهب التي شرعت أمامهم، كانت باتجاه المناطق الثائرة على النظام والتي جرى استباحتها علناً، من الأملاك الكبيرة، إلى الأبواب والنوافذ وسيراميك المنازل وأسلاك الكهرباء التي جرى اقتلاعها وبيعها فيما عرف وقتها بـ"أسواق السنة".

واليوم بعد 13 عاماً من الثورة، لم يتغير شيء، ولم يغير النظام من آليات عمله المنتجة للفساد، بل بات هذا الفساد هو الوسيلة المعتمدة لدى النظام نفسه لتحصيل الدخل سواء عبر تجارة المخدرات أم حواجز التشليح، فيما يعرف بالاقتصاد الأسود، أو اقتصاد الظل، بعد تدهور كل مصادر توليد الدخل المشروعة من صناعة وزراعة وسياحة.. الخ.

وكان لافتاً المراسيم المتوالية التي أصدرها بشار الأسد مؤخراً بعزل قضاة على خلفية قضايا فساد، في حين أن دولته كلها تعوم على بحر من الفساد، لأنها لم تؤسس منذ عهد والده على احترام المؤسسات والاحتكام للقانون، ومعاقبة الفاسدين.

وكل ذلك يحتاج إلى آليات، لم تكن حاضرة يوما في دولة الأسد، وفي مقدمتها الفصل بين السلطات، والحرص على أن تأخذ كل سلطة دورها كاملاً دون تغول من جهة خارجية، فضلا عن تفعيل آليات المراقبة مثل الإعلام الحر والبرلمان الحقيقي والأحزاب السياسية المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، وكل هذه الأدوات من شأنها ردع التجاوز على القانون.

ومن نافل القول، غياب المحاسبة، بل مكافأة الفاسدين، عبر توليتهم المناصب واستدامتهم فيها.

ومن المفهوم أن العلة وراء كل ذلك هو غياب الإرادة السياسية وربط السلطة مصالحها ووجودها بشبكة الفاسدين، ما فتح الباب على مصراعيه للرشوة والمتاجرة بالمنصب للإثراء غير المشروع، واختلاس المال العام أو تبديده أو إساءة استعماله، ما جعل سوريا تتبوأ بجدارة لأعوام متوالية المرتبة الأولى أو الثانية على سلم الفساد العالمي، وفق تصنيفات منظمة الشفافية الدولية.