خيري الذهبي والفضاء السوري المعاصر

2022.10.15 | 05:19 دمشق

خيري الذهبي والفضاء السوري المعاصر
+A
حجم الخط
-A

في مهرجان العجيلي للرواية العربية بالرقة، أطلق خيري الذهبي مقولة مدوية قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، حين بدأ مداخلته في المؤتمر بالقول: أنا مؤرخ السُنة في الرواية، وهاني الراهب مؤرخ العلويين، وممدوح عزام مؤرخ الدروز.

 كانت مفاجأة الحاضرين كبيرة، ليس باختيار الأسماء فحسب، بل لأن هذا الخطاب الذي يُسمِّي الطوائف في سوريا بمسمياتها يندرج ضمن الخطاب المسكوت عنه في الحياة العامة والثقافة السورية. فحجة غلبة الانتماء إلى سوريا والعروبة كانت هي الأكثر حضوراً في الفضاء العام السوري، إذ كانت تستعمل غطاء وطنياً لا يعبر عن الواقع، بقدر ما يعبر عن رغبة لدى أجهزة النظام لتغطية الشمس بالغربال.

وكان كلُّ من يستعمل هذا الخطاب الذي يصف الطوائف في سوريا حتى لو كان بطريقة علمية محضة، في العلن يعدُّ ممَّن يوهنون عزيمة الأمة فيصبح لقمة سائغة للتقارير الأمنية، وبالتالي قد يتعرَّض للاعتقال ويكون محظوظاً إنْ وصل إلى المحاكمة!

أما في الدردشات السرية، حين لا يكون أحد موجوداً من الطوائف الأخرى، فكان الخطاب الذي يتسم بالطائفية سمة مجالس سورية كثيرة، بخاصة في المناطق الجغرافية أو بيئات العمل التي تتجاور أو تتقاطع فيها الطوائف، أو بينها ثارات قديمة، مما يدعى بالكلام الذي يحكى في الظهر.

لا يتوقف ذلك على الطوائف ذات المنشأ الديني أو الاجتماعي، بل لمستُه شخصياً في حديث القبائل عن بعضها كذلك، أو أبناء الأرياف والمدن

وكان عدد كبير من أبناء كل طائفة يتحدثون عن الطائفة الأخرى همزاً أو لمزاً، أو إشادة وإن كانت الإشادة عادة ما تكون في الوجه، وقد مر كثير من السوريين بمثل هذه التجربة، بخاصة حين يكون موجوداً في مجلس يعتقد الجالسون فيه أنه شبيه لهم في الانتماء، وما إنْ يكتشفوا أنه من شريحة أخرى حتى تبدأ لغة الاعتذار، وأنه لم يكن قصدهم الإساءة، وينقلب اللمز إلى مدح وإشادة.

ولا يتوقف ذلك على الطوائف ذات المنشأ الديني أو الاجتماعي، بل لمستُه شخصياً في حديث القبائل عن بعضها كذلك، أو أبناء الأرياف والمدن، أو أبناء حيّ تجاه الحي الآخر، أو بين أبناء المدن الكبرى أنفسهم، ومثل هذه التعليقات موجودة في كل الثقافات بما فيها هولندا، لكنه يأخذ طابع مزاح ناعم، وليس طابع تنمر أو إساءة أو تعرية.

كلُ من كان موجوداً في مؤتمر العجيلي للرواية العربية آنئذ؛ كان له تفسيره الخاص، سوى كتاب التقارير الأمنية الذين اعتقدوا أن تلك رسالة سياسية من القيادة العليا، وإلا لاعتقل خيري الذهبي من المنصة، واقتيد إلى أحد الفروع الأمنية، وعمّ شيء من الترقب والوشوشة في القاعة.

الروائيون من مختلف المحافظات لم يعجبهم ما قاله خيري الذهبي، فلماذا اكتفى بذكر روائي واحد، ولماذا غيَّب محمد إبراهيم العلي، ونبيل سليمان وحنا مينة وحيدر حيدر وأحمد يوسف داود وعبد الكريم ناصيف وأديب النحوي وإلفة الإدلبي وجورج سالم وبديع حقي وأديب نحوي وغادة السمان وكوليت خوري وفارس زرزور وفاضل السباعي وفواز حداد ووليد إخلاصي؟

بل إنَّ عدداً من أولئك الروائيين عدّ ما قاله خيري الذهبي محاولة تكريس لأسماء ذات طابع يساري، وتجاهل للروائيين الآخرين بخاصة الروائيين البعثيين، أما اليساريون من المذكورين أعلاه فعدوا ما قاله انحيازاً لأصدقاء ورفاق سهر ورؤيا.

الذهبي بدوره شرح أسبابه، وذكر أن المقصود فيما قاله أعلاه أنه قصد الروائي الذي استطاع في نصوصه الراوئية نقل ديناميات التفكير والمعمار الحياتي والمكاني للشريحة الاجتماعية التي ينحدر منها، بحيث إن كل روائي ممن وردوا في شهادته قد تمكن من تقديم ما تختلف به كل طائفة عن الأخرى، ليس بالمعنى الديني، بل بالمعنى الثقافي والفكري والرؤيوي، ومدى انعكاسات ذلك على آليات الحياة اليومية، وعلاقة الشرائح الاجتماعية ببعضها، ومحركاتها الاقتصادية والاجتماعية وما تتغذى عليه في سردياتها اليومية، وما هو مسكوت عنه كذلك.

ذلك جانبٌ من جوانب خيري الذهبي، الذي لم يكتف بكونه روائياً، بل كذلك كان مؤرخاً وناقداً ومفكراً وكاتباً درامياً في عصر كان المرحَّب به هو المثقف الموسوعي، خاصة أنه يومَ بدأ خيري الذهبي باتخاذ الكتابة أداة للتعبير والتغيير قبل نحو نصف قرن، لم يكن الإنترنت أو وسائل التواصل الاجتماعي قد تسربتا إلى الحياة بفضل التحول التقني العالمي، وكان بخياره الكتابي يتساوق مع الأدوات الرئيسية المؤثرة في الأفراد والمجتمعات في المدينة آنئذ.

واستطاع عبر خمسة عشر عملاً روائياً، وخمسة عشر عملاً تلفزيونياً، إضافة إلى أنشطة وكتابات كثيرة أخرى في فروع معرفية متعددة أن يحجز مكانة متميزة له في المشهد الثقافي السوري، جاعلاً من التخييل التاريخي والاشتباك مع أحداثه، أو إعادة قراءتها ميداناً رئيسياً لكثير من إنتاجه، عبر فضاء مكاني رئيس هو دمشق؛ التي تقلَّبت أحوالها، وأحوال أهلها؛ تبعاً لظروف تاريخية مختلفة.

كان نمط شخصية خيري الذهبي نمطاً إشكالياً؛ حيث عُرِفَ بعناده الشديد، وتصميمه على ترك بصمته، ومشاكسته، وأن يحجز دوره وأثره في المشهد الثقافي السوري، ليس بصفته كاتباً روائياً أو درامياً فحسب، بل بصفته كذلك مثقفاً سورياً دمشقياً يعتز بتاريخه ومدينته ومواطنيته.

وعلى الرغم من انشغاله بعالم الكتابة وتبعاته، إلا أنه كان دائم الحضور في المشهد اليومي للحياة الدمشقية الشعبية والثقافية في المقاهي والندوات، وكذلك في الصحافة كأنه بذلك يستمدّ وقوداً لنصه وحياته، منفتحاً على الأجيال الأخرى والشرائح الاجتماعية المختلفة.

 وكان الذهبي لا يتردّد في المشاكسة متى ما وجد بابها مفتوحاً أو موارباً، مؤكداً اعتزازه بسوريّته، التي لا يريدها أن تتوقف عند شخص أو حزب أو شريحة اجتماعية. إلى أن هاجر إلى القاهرة عام 2012، باحثاً عن الأمان، وهي التي درس فيها الجامعة قبل نصف قرن، وكانت جدالاته في اتحاد الكتاب العرب مشهورة، وقد حصل على عضوية عدد من اللجان وهيئات التحرير بقوة حضوره وشخصيته وتميزه الكتابي كذلك، وليس نتيجة رضا قيادة الاتحاد آنئذ أو رغبتها بتكريمه، وهو ما اضطرت له غير مرة بحيث أصدرت كتاباً عنه ضمن سلسلة (أدباء مكرَّمون).

لا يمكن للباحث أن يمرّ في المشهد الروائي السوري، دون وقفة طويلة عند تجربة الذهبي، الذي كان له علاقة خاصة بالتاريخ والمتخيل التاريخي والفضاء المكاني، وآليات إعادة قراءة التاريخ القريب والبعيد بصفته فضاء ونمط حياة آخر، له دينامياته الخاصة، محاولاً أن يقاطع بين الزمان والمكان، وقراءة الماضي في ضوء الحاضر والعكس.

رأى الذهبيُّ في الرواية أبعد من كونها أداة تعبير وكتابة، وأنها الفن، الذي يحاول أن يؤرخ تفاصيل الشعوب- في قراءته للوجوه السلبية للعولمة- فهي تاريخ المهزومين إبان مواجهتهم التفاصيل اليومية والتحولات التاريخية الكبرى من مثل تحولات سوريا في القرن العشرين والحرب الأهلية اللبنانية ومرحلة إبراهيم باشا، من خلال التركيز على العالم الموازي الشعبي وحكاياته؛ التي رأى فيها أنها DNA متوارث في شوارع دمشق.

مرت تجربته الروائية فنياً بأربع مراحل رئيسية، كما أقرّ هو ذاته بهذه التحولات الفنية والرؤيوية: في المرحلة الأولى كانت رواية الأصوات هي الأبرز كما في روايات ملكوت البسطاء 1975 وطائر الأيام العجيبة1977. وفي المرحلة الثانية، كان تداعي الذاكرة أبرز ملامح ما كتب كما في روايات: حسيبة 1987وفياض1987 والدوران في المكان1997. وفي المرحلة الثالثة انشغل بالمونتاج الفني للزمن كما في روايات: رقصة البهلون الأخيرة 2003 وفخ الأسماء 2005.  أما في المرحلة الرابعة فركّز على ما يدعى نقدياً بالزمن الحلزوني المُتداخل، حيث حاول البحث عن معمار روائي يُلبي تعقيدات العالم الجديدة، فامتزجت الواقعية السحرية بالموروث السردي، كما في روايات: لو لم يكن اسمها فاطمة 2005 وصبوات ياسين 2006 والمكتبة السرية والجنرال 2018.

حين سُئِلَ خيري الذهبي يوماً عن الحل في سوريا بعد بداية ثورة 2011، لم يتردد في القول: كلمة واحدة سحرية ستحلّ كل مشاكل البلد، الديمقراطية

كان أول لقاء لي معه في مقهى الهافانا عام 1990 حين أعددتُ عن روايته حسيبة حلقة بحث مفصلة تضمنت في نهايتها حواراً قصيراً معه، حول مكوّنات تجربته ومحركات كتابته. ثم في مرات لاحقة ترافقتُ معه، غير مرة، في شوارع دمشق وحاراتها، وكان حريصاً على تعريفي بتفاصيل بعض الأبنية والحارات، وكان يقول لي: يجب أن يعرف ابن الفرات عن دمشق، أولاً، أكثر مما يعرف عن أي دولة عربية والعكس كذلك. لا تغرُّك شعارات البعث، الذي يزعجه أن نتعرف إلى بعضنا نحن السوريين أكثر فأكثر، لأننا قد نبحث عن المشترك فيما بيننا، ونكتشف أن ذلك النظام أكثر ما يثير الاختلاف؛ لأنه بغير ذلك الاختلاف والتفريق والقبضة الأمنية لن يكون موجوداً.

حين سُئِلَ خيري الذهبي يوماً عن الحل في سوريا بعد بداية ثورة 2011، لم يتردد في القول: كلمة واحدة سحرية ستحلّ كل مشاكل البلد، الديمقراطية، التي ستولّد مجتمعاً مدنياً غير ديني وغير استبدادي، سيحمي الجميع!