لم تكن ليلة السادس عشر من حزيران عام 2020 على رانيا وولديها كغيرها من الليالي، فلم تتخيل الأرملة السورية الأربعينية من مدينة حلب أن ينتهي بها المطاف مع طفليها في سجن "سليم باشا" في مدينة إسطنبول تلك الليلة، وذلك بسبب خط هاتف مسجل باسمها دون أن تدري.
دهمت المخابرات التركية منزل رانيا يومها واعتقلتها مع طفليها ذوي الـ11 و12 عاماً دون سابق إنذار، كما روت في حديثها لموقع تلفزيون سوريا، ليتبين بعد ذلك أن السبب هو استخدام أشخاص منتمين لتنظيمات إرهابية لخط هاتف مسجل باسمها دون علمها، ما كلفها ستة أشهر من السجن مع طفليها، في ظروف سيئة على حد قولها.
يعاني بعض السوريين في تركيا من مشكلات قانونية بسبب خطوط هاتف مسجلة بأسمائهم خارج إرادتهم ما يضعهم في مآزق يترتب عليها أحياناً أعباء مادية وأحياناً أخرى قد تصل إلى حد التورط في قضايا أمن دولة تعرضهم للسجن أو خطر الترحيل أو إيقاف قيودهم كنتيجة مباشرة وتحرمهم من حقوقهم في تلقي خدمات الصحة والتعليم كعواقب غير مباشرة.
فوفقاً لاستطلاع ميداني أجراه موقع تلفزيون سوريا فإن 9 من 15 سيدة تعرضن هن أو شخص من عائلاتهن أو معارفهن لفتح خط هاتف باسمهم دون علمهم، كما أعلنت الجمعية الدولية لحقوق اللاجئين في تقرير سابق، بأنها شهدت شكاوى متكررة حول هذه المسألة ووثقت في التقرير عدة حالات لسوريين تعرضوا لمشكلة مشابهة.
تبليغ مفاجئ من المحكمة
تختلف طرق استغلال الخطوط المسجلة دون علم أصحابها، فآلاء إحدى الضحايا السوريين لهذه الخطوط تقول في حديثها لموقع تلفزيون سوريا إنها تفاجأت يوم الجمعة الماضي باستلام تبليغ باسمها يترتب عليه دفع فواتير وضرائب لشركة هاتف بسبب خط مسجل باسمها تم الاشتراك من خلاله في قنوات وباقات مقابل مبالغ مالية يتوجب على آلاء دفعها حتى يوم الأربعاء القادم وقد يفضي عدم الالتزام بالدفع إلى السجن.
على الرغم من أن آلاء لم تستطع حصر أو توقع الجهة التي استخدمت هويتها لاستخراج خط الهاتف، تعتقد رانيا أن بياناتها الشخصية وصلت ليد الأشخاص الذين أساؤوا استخدامها نتيجة إرسال هويتها إلى المنظمات للتسجيل على مساعدات إغاثية، إلا أن الدكتور في القانون ومسؤول القسم العربي في شركة "içer" للمحاماة حسام الدين آغا أوغلو يؤكد بأن أكثر الأماكن التي تم فيها تسريب هويات السوريين واستخدامها لفتح خطوط هاتف هي محال الحوالات في السوق السوداء ومحال الجوالات وخطوط الهاتف.
حيث تجري العملية بأن يقدم متلقو الخدمة صورة عن الهوية للمحل المقصود كإجراء لتحقيق خدمته فتؤخذ الصورة ويستخرج بموجبها خطوط هاتف أخرى تباع إما في الشمال السوري أو في تركيا وفي الحالتين يستخدمها أشخاص دون قيود.
خطوط هواتف تورط سوريين تعرضوا لسرقة بياناتهم في #تركيا
— تلفزيون سوريا (@syr_television) December 6, 2023
تقرير: مريم محمد#تلفزيون_سوريا #لم_الشمل pic.twitter.com/7MKW3A85o4
خطوط الهاتف لعمليات مشبوهة
ووفقاً لآغا أوغلو فإن التجاوزات القانونية التي يمكن أن تتم من خلال خط الهاتف تتعدد وتتنوع فيمكن استخدامها من قبل تنظيمات إرهابية كما في حالة رانيا أو قد تستخدم في عمليات نصب واحتيال، كما يمكن استخدامها في بعض الجرائم الإلكترونية. ويضرب آغا أوغلو عن ذلك مثالاً لحالة واجهها حيث احتجز شخص سوري في مركز ترحيل لمدة سنة كاملة قبل أن يرسل إلى سوريا بسبب إرسال صور إباحية من خط هاتف مسجل باسمه إلى الشخص المشتكي.
وينصح آغا أوغلو السوريين بتفحص خطوط الهاتف المسجلة بأسمائهم من موقع "E devlet" الحكومي أسبوعياً كإجراء وقائي واللجوء إلى إغلاق تلك الخطوط مباشرة في حال وجودها، حيث يوفر الموقع خدمة فحص خطوط الهاتف المسجلة باسم الشخص.
حكم بالبراءة ومعاناة مستمرة
انتهى فصل السجن في حياة رانيا بعد أن تبينت الجهات الرسمية عدم صلتها مع الجماعات المطلوبة، ولكن تبعه فصل جديد من المعاناة مستمر حتى اللحظة، فعقب إسناد قضيتها لمحام وإثبات براءتها وإخلاء سبيلها بدأت رانيا تعاني من تبعات القضية حيث ُسحبت منها ومن طفليها بطاقات حمايتهم المؤقتة حين اعتقالهم، وزاد الطين بلة وفاة المحامي قبل انتهائه من متابعة القضية بعد أن استنزفها مادياً بشكل كامل كما تقول.
ولم تستطع رانيا حتى الآن استعادة هويتها وهويتي ولديها بسبب عدم تجاوب دائرة الهجرة مع ملفها، وعدم تعاون محامي الدولة الذي توكل قضيتها، فباءت كل محاولاتها لحل مشكلتها بالفشل على الرغم من لجوئها لعدة منظمات طلباً للدعم القانوني.
حقوق مهدورة وعمالة أطفال
لا تتوقف آثار القضايا القانونية المستعصية على المشكلة بحد ذاتها بل تتشعب لتطول جوانب مختلفة من حياة السوريين الضحايا وتولد آثاراً طويلة الأمد قد ترسم مسقبل وتحركات الأسرة بالكامل، فبعد أن توقفت هويات رانيا وأطفالها تبعها توقف مساعدات الهلال الأحمر التي كانت تتلقاها كلاجئة وتستند عليها كمصدر دخل، ما اضطر أطفال رانيا لترك المدرسة والعمل في الورشات مقابل أجور زهيدة، إضافة إلى حرمان الأسرة من حق الاستفادة من الخدمات الصحية المجانية المخصصة للاجئين السوريين على الرغم من حاجة رانيا الدورية لمراجعة الأطباء والحصول على العلاج بسبب إصابة في ركبتها.
وبذلك تفقد رانيا وأبناؤها حقوق الرعاية الصحية والتعليم المشار إليها كحقوق أساسية في المادتين 25 و26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
كما يتعذر على رانيا تثبيت عقد إيجار منزلها عند كاتب العدل وضمان حقها بالبقاء في المنزل، ما يهددها بفقدان المأوى بسبب ضغط صاحب البيت المستمر عليها لإفراغ المنزل الذي وصل إلى حد التعدي عليها بالضرب.
فجوة في الدعم القانوني
يعتبر الجانب القانوني من أكثر الجوانب التي يحتاج السوريون في تركيا للحصول على الدعم فيها، فكان موقع تلفزيون سوريا قد أجرى استطلاع رأي في الشهر التاسع من العام الماضي لقياس رضا السوريات في تركيا عن الخدمات المقدمة من منظمات دعم المرأة، واستهدف الاستبيان النساء السوريات المقيمات في كل من محافظتي إسطنبول وغازي عنتاب اللتين تحتلان المرتبة الأولى والثانية بين المدن التركية من حيث تعداد السوريين.
شاركت في الاستبيان آنذاك 69 سيدة وطُلِب من المشاركات تحديد مجالات الدعم التي يحتجنها من منظمات دعم المرأة وسمح لهن تحديد أكثر من إجابة، ووفقاً لنتائج الاستطلاع جاء الدعم القانوني في المرتبة الثانية كإحدى مجالات الدعم التي يحتجنها ولا يستطعن الوصول إليها بعد أن حددته أكثر من 37 في المئة من المشاركات وجاء "التمكين الاقتصادي والتأهيل المهني" في المرتبة الأولى.
مشروع حماية استجابة لحاجات اللاجئين السوريين
واستجابة لحاجات السوريين أطلق منبر منظمات المجمع المدني في منتصف الشهر الثامن من العام الحالي مشروع "حماية" بعد أن شهدت الفترة الأخيرة تفاقماً حاداً في الإشكالات القانونية التي يتعرض لها اللاجئون السوريون سواء نتيجة التمييز العنصري أونقص الوعي القانوني أو الإشكالات البيروقراطية لدى الجهات التركية.
ويقدم المشروع خدمات الدعم القانوني من خلال إدارة الحالات والتعامل معها عبر تقديم الاستشارات القانونية اللازمة أو جهود الوساطة من خلال التواصل مع الجهات الرسمية التركية المعنية أو التوجه للقضاء".
وفي حديثه لموقع لفزيون سوريا أشار سنان بيانوني مدير المشروع إلى أن "حماية" يعمل بمسارين الأول هو المناصرة على مستوى الحالة بحد ذاتها من خلال تقديم الاستشارة القانونية للشخص المعني وتوضيح أبعاد مشكلته، أما الجانب الثاني فهو إعداد تقارير موثقة بعدة حالات حين تكون المشكلة عامة ويرفع التقرير لمنبر منظمات المجتمع المدني الذي يوصله للجهات المعنية لمعالجة المشكلة.
وعن مشكلة رانيا، أشار بيانوني إلى أنها مثال لمشكلة عامة يتعرض لها السوريون وبأن المشروع أعد تقريراً يوثق عدة حالات مشابهة لإيصالها لأصحاب الشأن كما نبه أن هذا النوع من المشكلات يعتبر معقداً وتكمن الصعوبة بأنها قضية تهدد الأمن القومي وفي هذه الحالات حتى بعد أن تصدر براءة السوريين تبقى الأحقية في قرار إعادة تفعيل الكملك لدائرة الهجرة من الناحية الإجرائية، وتعهد مدير المشروع بمتابعة قضية رانيا والاستعداد لتقديم الدعم المطلوب سعياً لحل مشكلتها.
تشكل قضية فتح الخطوط بأسماء اللاجئين السوريين استغلالاً للوضع القانوني الهش لحملة الحماية المؤقتة وانتهاكاً لخصوصية بياناتهم وتعتبر التضييقات التي تمارس عليهم وعدم التراجع عن قرارات وعقوبات اتخذت على اعتبارهم مذنبين حتى بعد ثبات براءتهم انتهاكاً لحق أساسي من حقوق الإنسان، فتشير المادة السابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى أن الناس جميعًا سواء أمام القانون، ويتساوون في حقِّ التمتُّع بحماية القانون دونما تمييز ما يتطلب اتخاذ إجراءات تحفظ حقوقهم الأساسية وتضمن لهم العيش الآمن.
أنتجت هذه المادة الصحفية بدعم من "صحفيون من أجل حقوق الإنسان (JHR)".