إذا رسمنا خريطة بيانية لنشرح من يصوب النار على من في الشرق الأوسط، فسنخرج بخريطة تشبه صحن سباغيتي، لأن ما بدأ كحرب بين إسرائيل وحماس في تشرين الأول، أصبح يستقطب اليوم مقاتلين من أربع دول عربية، ناهيك عن قصف إيران وإسرائيل والأردن لسوريا خلال هذا الشهر، وكذلك قصفت إيران لباكستان بشكل خالف كل التوقعات، وهذا ما جعل الأخيرة تتساءل عن السبب الذي جعلها تنجر لكل هذه الفوضى.
تبدو نهاية الحرب على غزة بعيدة مع اقترابها من شهرها الخامس، على الرغم من شعور إسرائيل المتنامي بتعثر القتال هناك وتراجعه، وذلك لأنه مايزال يتعين على الجيش الإسرائيلي العثور على كبار قادة حماس، أو معظم الأسرى الإسرائيليين الذين ماتزال حماس تحتجزهم، وما يقلق المسؤولين عن الأمن في إسرائيل هو أن المساومة لابد أن تقوض المكاسب العسكرية التي حققوها.
التشكيك بالعقيدة العسكرية
منذ السابع من تشرين الأول، بات على ثلاث أعتى قوى في الشرق الأوسط إعادة تقييم عقيدتها الأمنية، فلقد انهزت فكرة التفوق العسكري الإسرائيلي، أما وكلاء إيران فباتوا يشكلون عبئاً على من يرعاهم، وعادت أميركا إلى المنطقة نفسها التي تتمنى الرحيل عنها، ولا أحد يدري كيف ستتطور الأمور، إذ مع امتداد الحرب في غزة، زادت الفوضى التي تكتنف هذا النزاع الإقليمي وازداد توسعه.
في العشرين من الشهر الجاري، أطلقت ميليشيات عراقية مدعومة إيرانياً وابلاً هائلاً من القذائف والصواريخ البالستية على قاعدة عين الأسد الجوية التابعة لأميركا في غربي العراق، ومعظمها اعترضته بطاريات باتريوت ضمن منظومة الدفاع الجوي، إلا أن بعضها أصاب القاعدة وأسفر عن جرح أميركيين وعراقيين. وأتى هذا الوابل بعد أيام على وقوع هجمات إيرانية في عموم المنطقة، استهدفت من وصفتهم طهران بـ "الإرهابيين" في سوريا وباكستان، ومقراً إسرائيلياً للتجسس في كردستان العراق بحسب زعم إيران (ما أسفر عن مقتل رجل أعمال كردي كان في بيته برفقة أسرته)، واستدعت الضربة التي استهدفت باكستان هجوماً انتقامياً على إيران، على الرغم من أن كلا الطرفين يحاولان تجنب مزيد من القتال على ما يبدو الآن.
تشير تلك الحوادث إلى وجود حالة قلق شديدة تتغلغل في صفوف النظام الإيراني، فقد شنت إسرائيل حرباً لم تعد تخفى على أحد ضد إيران، وذلك عبر اغتيال عدد من قيادات الحرس الثوري في سوريا مع عدد من القادة العسكريين من حزب الله المدعوم إيرانياً في لبنان. في حين هزت سلسلة من الهجمات الحكومة الإيرانية في الداخل، وكان من بينها تفجيران انتحاريان نفذهما تنظيم الدولة وأسفرا عن مقتل نحو مئة شخص.
على مدار عقود طويلة، زرعت إيران شبكة من الميليشيات الوكيلة لتستعرض قوتها في المنطقة، ولكنها أصبحت تعاني اليوم وهي تنشرهم هنا وهناك مع بقائها في الوقت ذاته بمنأى عن النزاع، فقد وافقت إيران ضمنياً على ضرب حماس التي نفذت عملية في إسرائيل من دون أن تخطر وكلائها الإيرانيين. كما أصبحت إيران تكره أن تطلق يد حزب الله، أقوى وكيل لها في المنطقة، وذلك مخافة أن تضرب أميركا أو إسرائيل إيران بشكل مباشر. ثم إن الهجمات التي استهدف بها الحوثيون في اليمن السفن التجارية تسببت بتشكيل تحالف عسكري تترأسه أميركا وتوجهه إلى البحر الأحمر، كما أن إيران قد تحدوها رغبة إرغام إسرائيل على وقف إطلاق النار في غزة، مع دحر الجنود الأميركيين وإخراجهم من المنطقة، غير أن ما حققه وكلاؤها حتى الآن هو عكس ذلك تماماً.
أما أميركا فما تزال تحاول أن تخلق حالة توازن، ولذلك يتحلى الرئيس جو بايدن بالحذر، فهو لا يريد أن ينجر إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط، خاصة في السنة التي ستشهد انتخابات في بلده. أما في العراق وسوريا، فقد أتى رد القوات الأميركية أدنى بكثير من عدد الهجمات التي تعرض لها الجيش الأميركي هناك. كما أن الحملة الأميركية ضد الحوثيين بدأت بعد تحذيرات متكررة وجهت لتلك الجماعة وبموجب قرار صادر عن مجلس الأمن يدين تلك الهجمات التي تستهدف حركة الملاحة، بيد أن بايدن يعترف بأن تلك الغارات لم تردع الحوثيين، لكنها ستستمر حسب وعده.
حوار "طرشان" أوروبي-إسرائيلي
ولذلك فإن أقصى ما يتمناه بايدن هو أن تنهي إسرائيل حربها في غزة قريباً، وهذا ما طالب به معظم حلفائه منذ شهور، فقد التقى يسرائيل كاتس وزير الخارجية الإسرائيلي نظراءه الأوروبيين في الثاني والعشرين من الشهر الجاري لمناقشة ما سيحدث بعد الحرب، لابد أن الدبلماسيين في بروكسل ذكروا بأن الطرفين تحدثا عن مواضيع مختلفة وهما يعتقدان بأنهما يناقشان الموضوع ذاته، إذ وجه الأوروبيون اهتمامهم نحو من سيحكم غزة ويعيد بناءها بعد الحرب، وكيف بوسعهم أن يسعوا ليحققوا حل الدولتين بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
بيد أن كاتس روج لمشروعه الذي يحبه وهو إنشاء جزيرة صناعية قبالة ساحل غزة لتتحول إلى ميناء بحري، بما أنه روج لهذا المشروع خلال فترة توليه لمنصب وزير النقل في عام 2017. وهذا ما أثار حالة من الاستغراب في نفوس من سمعوه، إذ يقول جوزيب بوريل أهم دبلوماسي يمثل الاتحاد الأوروبي: "لا علاقة كبيرة لهذا الموضوع بما كنا نناقشه".
تعارض عربي - إسرائيلي في المخططات
في هذه الأثناء، تروج الدول العربية بصمت لمخططها الساعي لإنهاء الحرب، إذ من المزمع أن توافق السعودية على تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل التزام الأخيرة بإقامة دولة فلسطينية، في حين أعربت دول الخليج عن قلقها حيال فكرة تحميلها مسؤولية غزة المدمرة بيد أنهم أبدوا استعدادهم لدعم السلطة الفلسطينية التي تحكم أجزاء من الضفة الغربية، وذلك في حال أصبحت تحكم غزة.
يحتاج هذا المخطط لزمن طويل، ويعود أحد أسباب ذلك إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من أشد المعارضين لفكرة إقامة دولة فلسطينية، إذ بعد محادثة أجراها معه بايدن في مطلع هذا الشهر، ألمح الرئيس إلى أن نتنياهو قد يقبل بإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح وذلك عندما قال: "أعتقد أننا سنتمكن من الخروج بحل لذلك"، ولكن نتنياهو سارع لصده ورفض ما قاله، وذلك عبر التأكيد على أن إسرائيل لابد أن تسيطر على كل المناطق الواقعة غربي نهر الأردن، ومصراً على أن هذا الموقف يعارض فكرة إقامة دولة فلسطينية.
سحبت إسرائيل عدداً كبيراً من جنودها من شمالي غزة، وتركت هناك فرقة تعمل على البحث عن الأنفاق لمنع حماس من استعادة سيطرتها على تلك البقعة. فيما تسيطر فرقة ثانية على الحدود الفاصلة بين شمالي غزة وجنوبها، وتطوق فرقة ثالثة خان يونس في الجنوب، تلك المنطقة التي شهدت قتالاً عنيفاً خلال الأيام القليلة الماضية. وتجاوز عدد الضحايا من الشعب الفلسطيني 25 ألفاً، ومعظمهم مدنيون، ومن المرجح أن تضاف آلاف أخرى لذلك العدد. كما أعلنت الأمم المتحدة بأن خُمس أطفال غزة الذين تقل أعمارهم عن خمس سنوات باتوا يعانون من إسهال شديد.
الدور المصري وأسبابه الاقتصادية
غير أن معركة نتنياهو للبقاء على المستوى السياسي ما تزال ترسم استراتيجية إسرائيل، ومصير من بقي من الرهائن في غزة. إذ عقدت أول صفقة لتبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس بوساطة قطرية، وجرى من خلالها تحرير 110 أسرى إسرائيليين وأجانب بنهاية شهر تشرين الثاني الماضي، كما لعبت مصر دوراً داعماً في هذا السياق. ومايزال هناك 136 أسيراً، على الرغم من أن إسرائيل تعتقد أن 29 منهم أضحوا في عداد الموتى. والآن، أصبحت مصر تترأس التوجه الذي يحث على تحريرهم، وتعتبر المصلحة الاقتصادية المصرية البحتة أحد أهم الأسباب التي دفعت مصر لتنحو هذا النحو.
لم تتسبب الفوضى التي سادت في البحر الأحمر سوى بخسائر اقتصادية متواضعة على الجانب الإسرائيلي، وذلك لأن معظم أنشطتها التجارية البحرية تتم عبر موانئ البحر المتوسط، في حين دفعت مصر ثمناً أكبر بكثير، فقد تراجعت عائداتها من قناة السويس بنسبة 40%، بما أن هذه القناة تعتبر مصدراً أساسياً لتحصيل العملة الصعبة، وهذا ما زاد التخوف من احتمال تخلف مصر عن سداد ديونها بما أنها تعاني بالأصل من نقص في الدولار وتغرق في بحر من الديون التي تراكمت على الحكومة (بما أن هذه الديون تمثل 93% من الناتج القومي الإجمالي)، كما هبطت قيمة الجنيه المصري فأصبح الدولار الواحد يعادل 60 جنيهاً في السوق السوداء، أي أنه هبط عن قيمة 50 جنيهاً للدولار الواحد خلال الشهر الماضي، كما هبط عن سعر الصرف الرسمي بنسبة تعادل 50%.
لا تعتقد مصر بأن الغارات الأميركية التي تستهدف الحوثيين ستردع تلك الجماعة وتمنعها من مهاجمة السفن، ولهذا أصبح وقف إطلاق النار في غزة السبيل الوحيد أمام مصر حتى تعيد قناة السويس للعمل، وذلك برأي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ولهذا السبب طرحت مصر الموضوع في محادثات غير مباشرة أجريت بين إسرائيل وحماس، على الرغم من أن قناة الاتصال القطرية ما تزال مفتوحة هي أيضاً.
إن الاتفاقية التي تروج لها مصر ستأتي على مرحلتين، أولهما: تحرير يوصف بالإنساني للرهائن المدنيين مقابل عقد هدنة تمتد لبضعة أسابيع، بل حتى لشهر أو اثنين. وبالمقابل ستحرر إسرائيل مئات الأسرى الفلسطينيين، أما المرحلة الثانية فتقوم على تحرير الأسرى من الجنود الإسرائيليين مقابل وقف إطلاق نار شامل، وانسحاب إسرائيل من غزة، وتحرير مزيد من الفلسطينيين، بل الآلاف منهم كما هو متوقع.
انقسام إسرائيلي
خلقت هذه الشروط حالة انقسام في الحكومة الإسرائيلية، إذ إن الجناح الأكثر براغماتية وعملية والذي يتزعمه بيني غانتز، وزير الدفاع السابق الذي انضم لحكومة الحرب في تشرين الأول الماضي، يؤيد عقد هدنة طويلة لتحرير الرهائن، ويرغب هذا الفريق بأن يترافق ذلك مع مفاوضات تجري مع الحكومة الجديدة في غزة، لأن بقاء حماس في السلطة يعتبر لعنة بنظر معظم الإسرائيليين، بيد أن الجناح الأيمن من الحكومة والذي يتصدره نتنياهو، يعارض وقف إطلاق النار بشدة، إذ في 24 من كانون الثاني الجاري، صرح وزير المالية الإسرائيلي، بتسلإيل سموتريش، بالقول: "لا يمكننا أن نوافق على وقف الحرب في هذه المرحلة لمدة طويلة كهذه".
نتنياهو المراوغ
كعادته، يلجأ نتنياهو للمراوغة وهو يحاول أن يقنع كلا الطرفين في حكومته بمخططاته، إذ وعد أمام الناس بمواصلة الحرب حتى تحقيق نصر كامل، أما في السر، فقد سمح لمن يمثلون إسرائيل بمواصلة المفاوضات، ولكن من غير المرجح أن يفعل شيئاً يمكن أن يستبعد من خلاله اليمين المتطرف الذي لولاه لما تمكن من العودة إلى منصبه في كانون الأول من عام 2022.
انقسمت حماس على نفسها بسبب هذه الصفقة أيضاً، إذ يفضل قادتها السياسيون قبول المرحلة الأولى من الاتفاقية، بما أنهم يجرون رحلات مكوكية بين الدوحة والقاهرة من أجل المفاوضات، وهذا ما يعني أنهم يدركون بأن احتفاظهم بأسرى مدنيين يقوض قضيتهم. بيد أن القادة في غزة يطالبون بانسحاب إسرائيل قبل إطلاق سراح دفعة أخرى من الأسرى، ويعتبر مطلبهم بتحرير إسرائيل لمقاتلين من حماس شاركوا في عملية تشرين الأول سبباً محتملاً آخر لإفشال الصفقة، بما أنه من غير المرجح أن تقبل إسرائيل بهذا الشرط.
وهنا قد يتعين على نتنياهو التوصل إلى قرار بسرعة، إذ في مقابلة أجريت مع غادي أيزنكوت وبثت يوم 18 كانون الثاني، وهو أحد أعضاء حكومة الحرب في إسرائيل، ورئيس أركان سابق للجيش الإسرائيلي، ألمح الرجل إلى وجود ضغوط تدفع لإجراء انتخابات مبكرة، وذلك عندما قال: "يتعين علينا في غضون شهور أن نعود إلى الناخب الإسرائيلي لنجدد الثقة"، أي أن المسألة الآن أصبحت مسألة وقت قبل أن تحل حكومة الحرب الطارئة، كما أن الاحتجاجات زادت في المدن الإسرائيلية، ومعظمها تتصدره عائلات الأسرى التي تطالب بوقف إطلاق النار، وباستقالة نتنياهو أيضاً. أما شركاء نتنياهو من الوسط فمن المحتمل أن يغادروا الحكومة في حال عدم التوصل لجواب بشأن صفقة الأسرى واستراتيجية إسرائيل بعد الحرب، وهذا ما شرحه مسؤول أمني إسرائيلي بقوله: "وصلنا إلى درب مسدود حتى الآن، لأن القيادة السياسية لا تريد أن تصل إلى قرار، وإذا لم تفعل، فسنخسر كثيراً من المكاسب التي أحرزناها بعدما دفعنا ثمناً باهظاً".
المصدر: The Economist