خامنئي الذي يحوّل احتضاره إلى مجزرة

أشاد المرشد الأعلى علي خامنئي بقمع جهاز الباسيج للمحتجين الإيرانيّين، معتبرا أنّ عناصره ضحوا بأرواحهم لحماية الشعب من مثيري الشغب.

الرجل الثمانينيّ المريض يستعد لاستقبال الموت، ولكنه يريد أن يتركه خلفه وكأنه تراثه وإرثه وما يجعله باقيا وخالدا. يسعى لسحب إيران كلها معه إلى القبر الّذي يفتح ذراعيه لاستقباله.

للرجل ابنتان هما بشرى وهدى والثورة التي انفجرت في وجه نظامه أطلقها قمع الأجهزة الأمنيّة الإجرامي للشابة مهسا أميني، وبعدها استمرت موجة القمع وتعاظمت، وارتفعت على إثرها وتيرة الرفض المطلق لما أرساه في حياة الإيرانيّين من معادلات يستحيل التفاهم معها.

احتلّت نساء إيران واجهة المشهد الغاضب، وكذلك بدا أن روح توصيات المرشد التي تعمل الأجهزة الأمنية بوحي منها تتضمن أمراً بتشويه وجوه النساء المشاركات. ما كشفت عنه التقارير حول جثة الصبيّة  نيكا شكارامي بيّنت أنّ هناك تشويهاً متعمداً للوجه كطريقة لبث رمزية غياب الملامح.

كيف يستطيع هذا الرجل النظر إلى وجهي ابنتيه؟ هل يمكن تخيله كأب؟ لا نتحدث عن أبنائه الذكور الذين باتوا جزءا من ماكينة النظام ولكن نشير إلى ابنتيه.

السؤال يصب حول تلك العلاقة التي يحاول أن يبنيها بين القمع المطلق الذي ينصب بشكل خاص على نساء إيران وبين وضعية مرشد أعلى يقدم نفسه بوصفه الراعي والحامي لعموم الإيرانيّين.

ذلك المحو المبرمج لوجوه النساء الإيرانيات هل يحكم علاقته مع ابنتيه؟ ما يرشح من معلومات حول علاقته بعائلته يشير إلى أنهم ينادونه بلقب السيد أو القائد حين يكون حاضرا وبلقب آيه الله حين يكون غائبا، كما أنه بدوره ينادي أولاده الذكور الأربعة بلقب سيد ويستعمل عبارة خانم كلقب لابنتيه وكأنه ينظر إليهما من خلف جدار. الخانم لا تملك وجها ولكن الابنة هي الوجه، كلّ الوجه.

المرشد المحتضر ينطلق من مفهوم الملكيّة الذي يرى أبناؤه أنه منح له بتفويض إلهي، ويؤمنون أن منصب المرشد الأعلى لم يمنح له إثر انتخابه من مجلس الخبراء بل حصل بإلهام مباشر من الله

تلك العلاقة محكومة بالتأليه تقول إنه لا يستطيع أن يكون أبا لأولاده فلا يمكن أن نتخيل علاقته بالشعب الإيراني الّتي يعطي من خلالها لنفسه الحق في التحكم بمصائرهم وحيواتهم، إلا بوصفها علاقة ملكيّة كما هو حال ملياراته ومليارات أبنائه.

منطق الملكيّة يرتبط بالإباحة التامة والمطلقة، فلا يُسأل المرء عن كيفية تصرفه في أملاكه ولا تخضع إداراته لها لقوانين الأخلاق والسياسة ومفاهيمها.

المرشد المحتضر ينطلق من مفهوم الملكيّة الذي يرى أبناؤه أنه منح له بتفويض إلهي، ويؤمنون أن منصب المرشد الأعلى لم يمنح له إثر انتخابه من مجلس الخبراء بل حصل بإلهام مباشر من الله.

لا يدين الرجل بشيء لأحد حتى لأجهزة القمع التي تعمل وفق إرشاداته وتوجيهاته، والملالي الّذين يجهرون ليلا ونهارا بتأييده والولاء المطلق له، وقطعا لا يدين لشيء للشعب الإيراني بكل تلاوينه، سواء هؤلاء الذين يمزقون صوره ويحرقونها أو الّذين يهتفون له ويعبّرون عن استعدادهم لفدائه بالروح والدم.

لا علاقة تربطه بشيء أو أحد سوى مصدر سلطته الّتي يمثّل هو نفسه جهاز التواصل الوحيد معه، بحيث يصبح الرسول والرسالة في آن واحد، وعلى الرغم من أنه يقدّم نفسه بوصفه ناقلا للتعاليم من مصادر الوحي فإنه الوحيد الّذي يجيد تأويلها بحيث تصبح كذلك جزءا من أملاكه.

كل هذا يعمّق عجزه عن تمثّل ملامح شخص سواه سواء أكان رجلا أو امرأة، ولكنّ المرأة داخل نظام التراتبيّة الّذي بنى عليه سلطاته تحتل مرتبة أدنى، ذلك أنها الكائن الّذي يخاطب العالم ويحيا الوجود انطلاقا من ملامحه ووجهه.

الحجاب الإلزامي الذي فرضه كان خنقا للدين نفسه بهدف سحب ملامح المرأة من التداول بالتزامن مع سحب حضورها السياسيّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ وتعطيل مسار إنتاجها للقيم.

من هنا اكتسب تعبير المرأة الإيرانيّة عن نفسها مهما كان بسيطا بنية ثورة راديكاليّة في وجه حملة الإخفاء التام الّتي تتعرض لها. يكفي أن تخلع الحجاب أو تصور فيديو وهي ترقص أو تحتفي بالحياة حتى تعكس مفهوم الحريّة الّذي يدين المرشد ويثور ضده.

أن تكون المرأة في واجهة الاعتراض على حكمه وزمنه هو ما لا يحتمل بالنسبة للمرشد المحتضر، وخصوصا أنها قد باتت وبغض النظر عما سيجري صاحبة معنى ومنتجة قيم تدينه وتضعه مباشرة في مقام المحتقر وترسّخه قاتلا.

حركة خلع الحجاب الإكراهي تتخذ معنى خلع زمنه كله، وتلك المشهديّة التي تحتلّها وجوه النساء، تكشف عن بنية ثوريّة عميقة وشاملة نجحت في أن تخلق لنفسها نسقا شعاراتيّا وبنية رمزيّة تعنى بالدفاع عن خطاب امتلاك الوجه والملامح.

الاختفاء الذي كان النظام يفرضه على الشعب الإيراني عموما وعلى المرأة خصوصا، كان محاولة لخلق شعب يعيش في السجون والأقبية طوال الوقت ويؤمن أنها وطنه وحدوده الّتي يجب أن يدافع عنها بكلّ ما أوتي من قوة.

لم يعد ذلك النظام يملك شرعيّة ولا خطابا. قدرته على القمع لا تزال كبيرة ولكن على الرغم من ذلك يمكن الحديث عن طلاقٍ نهائي بينه وبين الناس

لطالما رفض الإيرانيون تلك الإقامة الجبرية وانتفضوا عليها بأشكال مختلفة، ولكن ما يجعل من الثورة في نسختها القائمة حاليا مغايرة لكلّ تاريخ حركات الاحتجاج ضد النظام التي لم تتوقف، أنّها بدأت من النهاية وانطلقت من الحدود القصوى، واستهدفت مباشرةً قدسيّة المرشد، وأطلقت في الفضاء العام الإيراني وجوه النساء وشعورهن وأجسادهن كعناوين تخترق بنية المحرمات الأعمق لنظامه وزمانه.

لم يعد ذلك النظام يملك شرعيّة ولا خطابا. قدرته على القمع لا تزال كبيرة ولكن على الرغم من ذلك يمكن الحديث عن طلاقٍ نهائي بينه وبين الناس بشكلٍ لا يمكن فيه فرض نفسه إلا من خلال المجزرة وحسب.

يأمر المرشد بارتكاب المجازر وكأنها ذاته الشخصيّة، وكأنها باتت الرافعة الوحيدة لقدسيته الّتي مرّغت في الوحل، ولكن الضحايا استطاعوا الدفاع عن أسمائهم، وباتت وجوههم تطارده في كلّ بقاع الأرض وتستحضر صورته قاتلا ومجرما ليس إلا.

رمزية مهسا أميني وثورة الإيرانيات والإيرانيين ضده صارت الماركة المسجّلة لما يعبر من إيران بعد أن كانت لا تصدّر سوى الميليشيات والصواريخ.

قد يستطيع ذلك المرشد ارتكاب المجازر ولكنه بات عاجزا عن منحها أي شرعيّة، فلن يكون ممكنا بعد اليوم تغطيتها بعناوين المقاومة والتصدي ولن تكون سوى خاتمة تافهة لسيرة ديكتاتور محتضر لا يستطيع تحمّل عالم يمتلك فيه البشر وجوههم وحيواتهم.