حين يصبح وطنك إشارة استفهام؟

2024.08.31 | 06:15 دمشق

آخر تحديث: 31.08.2024 | 06:15 دمشق

24555555555552
+A
حجم الخط
-A

تعلق قلبي بها منذ أن كنت نسياً منسياً. حين درستُ علامات الترقيم، كان أقصى ما أطمح إليه أن تصبح حبيبتي قوسيْن لتضمّني بكل ما تستطيع بين يديها، فالبرد قد أصابني من علامات التعجب!!! وإشارات الاستفهام؟؟؟؟؟ التي خيَّمت على حياتي في السنوات الأخيرة.
ما جعل أحلامي كبيرة هو أن حبيبتي لديها أجمل يدين في العالم. لهفَ قلبي لهما حين رآها، قلتُ بصمت: هاتان اليدان يشعّ منهما دفء كبير مضْمَر.
يبحث قوس قلبي عن قوس روحاني آخر ليضمّ معه معنى جديداً. كان قلبي يحتجّ دائماً عليّ: تعبتُ من دور علامة التنصيص " ". الورد الجوري الذابل من خيبة رجائها بعلامات تنصيصٍ عدة، مرتْ في حياتها كان أكبر من شغفي بها.
والمجاز اللغوي، الذي يدق حيطان قلبي في حضرة أنوثة سوريتي، يبدو أنه يجب أن يرتاح شهوراً!
من الواضح في عينيها أنها وطن لا يحبّ المجاز، أو لنقل بكلمة أدق، لا يترك مفعولاً طويل الأثر في روحه، قد يدغدغُها للحظات، فيزرع ابتسامة سريعة، عابرة.
الأوطان لا تحبّ المحطات العابرة، قالها حكيم وهو يشرب الشاي، يوم كنا نستطيع العيش بفرح قليل، فترات طويلة. جلسنا طويلاً، طويلاً، كأننا نريد اختصار محطات. كنت أوازن نظراتها وأحاديثنا مع علامات الترقيم؟!):،. !؟
تلك طريقة قديمة اعتدتُها في قراءة من ألتقيهم أول مرة، تحولتُ إلى نقطتين فوق بعضهما: وأنا أستمع إلى أحاديثها، كانت تنساب مثل ذلك الرضا الذي أقرؤه في عينيها.
كتبتُ لها بعد أن التقينا بعقود أو قبل أن التقينا، لا أتذكر، منذ فاتحة اللقاء: سأكون اليوم مستمعًا جيدًا لك! الأوطان والمدن تحب من يصغي إليها.
لكن حبيبتي حولتها التجارب إلى إشارة استفهام؟
وبدل أن أنشغل في تفقد علامات محدّدة أو تفاصيل صغيرة لتكون محطات في حواراتنا، صارت مهمتي الرئيسية أن ألوبَ مسرعاً خلف أسئلة وجودية: متى وكيف وأين ولماذا؟
في نهاية اللقاء، كنتُ أختنق، هربتُ راكضاً، وأنا أصرخ في المدينة: تعبت من الأسئلة!
وضيعتُ مفتاح بيتي بعد أن تحولتْ المدينة الشاسعة إلى أشخاص تقمصوا أدوات الاستفهام، وكانت مهمتهم الرئيسية الركض خلف أحلامي البسيطة: العيش بوطن آمن.
في لحظة ما، كنتُ أحاول أن ألاحق تعابير وجهها، الذي صار يشبه إشارة استفهام ناعمة، يا إلهي كيف لم أنتبه إلى ذلك من قبل، ما أعذبَها!
نجحتْ أسئلتها بإخفاق أحلامي، إذ صار أقصى طموحي أن أصبح نقطة على جدار تفاصيلها، تأكيداً مني على تمسكي بها، وكي أُسَهّل عليها مهمة أن تبتعد عني بأسرع طريقة. أحيانًا، أقول: إنها ستهزّ يدها الحانية، وتأخذني إلى حضنها، لكنها تنكرني كأنني متعلق بغصن طري على شجرة باسقة.
تقرأُ نظرات عيني، فتقول: لا تنس أنني إشارة استفهام في هذا الكون، فإنْ أخذتُ النقطة إلى أحضاني ستضيع الدلالة، وأنا مشغولة بحصارها، أنا أنثى تتقصى الأثر، وتريد أن تمحو الدلالات الخاطئة التي ترتكبونها بحقي.
أتخيّل للحظة أنها ستلتفت بأسئلتها التي لا تنقطع، بسرعة، فأتساقط على رأسي الممتلئ بالتفاصيل.
وهكذا بدلًا من أن أستمتع باستعادة قراءة تاريخها، وأتدفأ بها في لحظات البرد الليلية، كانت تنتظر مني كل يوم ما يؤكد أنني أجيد لعبة المحو، فأمحو نبضاتي معها، كأنني لا أعرفها!
كان ذلك يريحُها كثيراً، ويجعلها تشعر بالأمان معي، لكنها ما عرفتْ أن هذا يحيل علاقتي بها إلى "أرض بور" لا ينبت فيها زرع كلماتي!
لا يظنّن أحد أن الأمر مرتبط بثقتها بي، لا.
فإنْ خرج دهائي من قمقمه، سيقترح عليّ الاحتفاظ بكل كلماتي معها.
لكنني رجل من أمان، ولا يمكن أن أكون زارعاً للتعب في حقل الأسئلة.
كنت سعيداً بثقتها الهائلة بي، وكانت أنثى تعرف كيف تضع مَن أحبَّها في عنق الزجاجة، فهي قُدَّتْ من سؤال!
كانت تريدني جواباً، ولا تعرف أنني فقدتُ حروف اللغة وأبجدية اليقين منذ أن قالت لي: اخرج.، ما عدتَ حبيبي، وفمي أنا أحاول العودة إلى حضنها كانت هي ترتب سفر خروجي من حياتها إلى الأبد!
اقترحتُ عليها أن نبحث عن الأجوبة معاً، يدي بيدها، ونبضي بنبضها، لكنها كانت تؤمن بتقسيم الأدوار، وأنَّ كلًا منا عليه أن يجد أجوبته بنفسه، وحدثتني عن أن البشرية لم تتطور إلا حين تمّ تقسيم الأدوار.
وفي لحظة غضب واعتراف قالت: أنتم الأبناء تحبون العمل والبحث المشترك حين تريدون أن تهربوا من الوضوح والأوطان التي منحتكم الدفء والأمان!
وتجاهلتْ أنني عالمٌ من سرد، لا أملك نهايات ما أسرده مسبقاً!
تنشغلُ هي بيقين قناعاتها، وتتركني معلقاً على أغصان أشجار أسئلتها، تهوي بي ريح الانتظار أياماً!
هذا الوطن أول علامة استفهام تمرّ في حياتي، كان من الصعب أن أعتاد أول الأمر، لكنني وجدتُ نفسي أولاً بأول واقعاً في انتظار أسئلتها، أحالتني إلى كائن باحث عن الأجوبة، أعادت إحيائي مرة أخرى.
المشكلة أن ذلك قد حدث، بعد أن تقاعدتُ عن حقل الأجوبة في تفاصيل هذا العالم، أطلتْ ببهائها على يقيني فَحَوّلته إلى ركام من شك.
ملأت حياتها بالأسئلة، حتى أنها تتأمل العالم بعيون من أسئلة. قالت لي مرة في لحظة لا تعد من الزمن الأرضي: لو كان اسمك علامة استفهام لأحببتُك من أول نظرة ولأبقيتك جزءًا من عالمي!
فأرسلتُ إلى والدي أسأله: لِمَ لم تسمّني: كيف؟ أو لماذا؟ يا أبي؟ ابتسم وقال: يا ولد، ألا تعلم أن الموتى لا يسألون، وأنهم معنيون فقط بالبحث عن أجوبة لأسئلة الملائكة!
سألتُ أمي فقالت: يوم ولدتُكَ كان العالم منشغلًا بالأجوبة، لم يكن لديه فسحة كبيرة للأسئلة، كان اليقين يملأ سماء القرية، اخترنا لك اسمًا من يقين!
تطورتْ علاقتي بها أولاً بأول، وصارت الأسئلة وأدوات الاستفهام تأتيني في المنام، ولأنني أحبُّ سوريتي كثيراً، فقد أخذتُ أبني علاقة من مودة مع علامات الاستفهام، وأعجبتني فكرة أن تنجب هي الكثير من الأولاد والبنات وتسميهم: كيف ولماذا وأين ومتى؟
يوماً بعد يوم، يتحول عالمي اليقيني المكون من أجوبة جاهزة، إلى أسئلة، لتغدو أيامي كلها أسئلة، حتى أنني صرت أرى معظم تفاصيل العالم على شكل أسئلة؟
وبدلاً من أن أتحدث عن أنوثة معصم فتاة ما مثلاً، كعادتي سرداً، صرتُ أقولُ لها: الهلال يشبه التواء علامة الاستفهام، و"متى" تشبه البيت، و"أين" تشبه الغزال، والرسم على الخاتم في أصبعها أقرب ما يكون في مرحلة الانتقال من علامة التعجب إلى إشارة الاستفهام؟
جربتُ أن أكتب السرد والشعر، غير أنها كانت تقول بأعلى سؤالها: أنا لا أحبّ اللغة التي تخفي الدلالات، فاللغة وُجدت لتقول رسالتها بوضوح، لماذا نترك وضوح الأسئلة لنتوه في لغة لا حدود لها!
غير أنني في غفلة من أسئلتها، وفي لحظة سردية، رحتُ أقبّلُ أجمل أرض في العالم ألف قبلة وقبلة كأني لن أرى وطني مرة أخرى. هي كانت تنظر إليّ وتقول: أنت لا تقبلني، أنت تعزف مقطوعة من حب.
وفيما أنا مأخوذ بتلك اللحظة الغامضة، غير المتفق عليها، داهمتْني أسئلتها، متلبّساً، فانهمَرتْ عليّ: لِمَ لا تجيب عن أسئلتي؟ وخرجتْ من ملامح وجهها، التي تسحرني، كل أدوات الاستفهام؟ لم أجبْها، كأنني أريد أن أبقى معلقاً كسؤال على غصن شجرتها الفارعة، تهزّه نسمات اللايقين، أرفضُ أن تلفظني أسئلتها بعيداً، هناك، حيث لا أحد!!، لا وطن، لا ذكريات، سوى التيه يقود الأسئلة إلى لا أجوبة.
قصصتُ رؤياي على إخوتي، فقالوا: لملمْ كلماتك واطوِ نفسك على نفسك، وصرّ بقجة أحلامك، واحجز مكاناً لك في باص الأجوبة، خائباً، عائداً من رحلة عن وطن بديل، ستلوب ما تبقى من عمرك باحثاً عنه!

كلمات مفتاحية