سوريو طنجة والاندماج عبر صناعة النسيج ومئذنة الجامع

2024.08.17 | 06:30 دمشق

25858585858585858585858587
+A
حجم الخط
-A

تتفرد مدينة طنجة بإطلالتين، لا أحد ينافسهما عليها: إحداهما على البحر المتوسط، والأخرى على الأطلسي. كأنها تقول لمدينة اللاذقية السورية: لئن كنت أنا بداية البحر الأبيض المتوسط فأنت ختامه، وبين البداية والنهاية قصص سورية.

بقيت تلك القصة السورية حبيسة "إهمال تاريخ السوريين الناجحين في العالم"، الذين لم يتواصلوا مع ما كان يدعى بوزارة المغتربين، التي انشغلت بتفريق الجاليات السورية في العالم أو شراء الولاءات أو شروطات تقديم الهدايا للوزراء كما ورد وفقاً لشكاوى رسمية وردت إلى رئاسة الجمهورية يوماً ضد بثينة شعبان، على العكس من صورة وزارات المغتربين في العالم التي تحرص على مد عرى التواصل وتشجيع الاستثمارات وتقديم أفضل الصور عن البلد الأم، وتفعيل لوبيات المغتربين والمهاجرين في الدول الفاعلة سياسياً في العالم.

ما الذي جعل مستثمرين سوريين وأصحاب معامل نسيج من دمشق وحلب يذهبون إلى طنجة؟

تقول الحكاية إنه في مرحلة ما من تاريخ سوريا دعيت بـ "التأميم والمراحل اللاحقة له" قد بدا تجار سوريون بالتفكير بالهجرة، بعد أن سرقت أرزاقهم، نتيجة "ذلك القرار الغشيم" الخاص بالتأميم، الذي لم يأخذ الحالات الفردية بعين الاعتبار وكان ضربة قاصمة في تاريخ الصناعة السورية.

فكر عدد من المستثمرين بحلول جذرية، فكان أن تواصلوا من خلال شبكة علاقاتهم بالملك المغربي، وكذلك بمستثمرين آخرين في أميركا، إلا أن الملك المغربي رحب بهم ومنحهم إعفاءات خاصة تمكنهم من توطين صناعة النسيج والأقمشة في المغرب، فيفيدون البلد ويستفيدون، نعم! نظام ملكي يستقبل تجاراً هاربين من نظام جمهوري بعثي (اشتراكي) ليعيدوا بناء حياتهم.

أنشأ أولئك السوريون معامل نسيج بأسماء شهيرة تغذي حاجة السوق المحلية المغربية في ميناء على المتوسط والأطلسي يمكنهم من الاستيراد والتصدير من مختلف دول العالم، وهم الذين شاهدوا كيف أن معاملهم تتم السيطرة عليها وتتحول إلى معامل فاشلة بعد أن سلمت السلطة السورية إدارتها إلى شخصيات لا علاقة لها بالنسيج أو الغزل أو صناعة القماش والخيوط.

 تزوير التاريخ في أحد جوانبه شأن سوري أسدي، يعبر عن عقدة نقص كبيرة ومحاولة إعطاء كل شي جانباً تاريخياً ويعبر عن فكرة "الأولية" وعدم القدرة على الإنجاز، ومحاولة ربط بلد كـ سوريا بتلك العائلة.

كانت طنجة مدينة صغيرة، تنبع أهميتها من جانبين أنها ميناء المغرب على المتوسط ومقرٌّ للتمثيل الدبلوماسي الغربي ومصيفٌ لعدد من السياسيين والفنانين، وهي ذات طقس ساحر، وسبق أن بنى في غاباتها المطلة على الأطلسي ممثل أميركا الدبلوماسي ذو الأصول اليونانية قصراً لزوجته كي تتعالج وسط الغابات، صار اليوم متحفاً واسمه متحف برديكاريس، وسبق أن استورد مواده الأولية من خلال ميناء خاص تحت القصر، ويمثل نمط المعمار الأوروبي في نهايات القرن التاسع عشر، وقد تم اختطاف ذلك الدبلوماسي لاحقاً من قبل الأمير الريسوني ولم يطلق سراحه قبل أن يدفع الملك المغربي الفدية البالغة 70 ألف دولار ويسلمه إنارة المدينة، ولم يدفع الملك تلك الفدية عن رضا بل لأن فك أسره كان جزءاً من حملة الرئيس الأميركي روزفلت الانتخابية آنئذ 1904، حيث هدد بقصف المدينة إن لم يطلق سراح برديكارديس وقال في برقية "إن الحكومة الأميركية تريد برديكارديس حياً والريسوني ميتاً"، وحكاية برديكاريس أغرت مخرجاً سينمائياً لتحويلها إلى فيلم عنوانه الأسد والريح بمشاركة الممثل شون كورني.

ولجمال تلك المدينة، فإنها تنطوي على كثير من الحكايات والسرديات كأن تهديها الأميرة كاترينا دي براكنزا البرتغالية يوم كان البرتغاليون يحتلونها، هدية إلى الملك تشارلز الثاني، جميلٌ أن تهديك من تريد الزواج بك مدينة جميلة كـ مدينة طنجة!

لذلك يعد أهل مدينة طنجة أن تاريخها الكوزموبولوتي هو أحد عوامل تميزها، لذلك تركت الحقائق التاريخية على ما هي، لم يتم لوي أي منها لأجل القيادة الحكيمة.

تزوير التاريخ في أحد جوانبه شأن سوري أسدي، يعبر عن عقدة نقص كبيرة ومحاولة إعطاء كل شي جانباً تاريخياً ويعبر عن فكرة "الأولية" وعدم القدرة على الإنجاز، ومحاولة ربط بلد كـ سوريا بتلك العائلة، كأن سوريا لم تكن شيئاً قبلهم! حيث لا تأخذ تلك العائلة فكرة أن المنجز التاريخي يحتاج وقتاً وأن ليست كل المنتجات تحتاج إلى بروباغندا إعلامية، الكثير من المنجزات تمكث بين الناس وفي نفوسهم إن كان فيها ما ينفع الناس.

تعبيراً عن شكرهم لمشاركة مغاربة في حربي عام 1967 وحرب تشرين عام 1973 قام التجار السوريون في طنجة خاصة من العائلة الحلبية آل الططري والعائلة الشامية آل ترجمان ببناء جامع كبير أرادوا تسميته باسم أحد الجنود المغاربة الذين استشهدوا دفاعاً عن الأرض السورية، لكن الملك المغربي آنئذ رفض ذلك، وأصر أن يكون اسم الجامع "جامع السوريين" بل ترك لهم حرية اختيار تصميمه حيث صممه مهندس هنغاري، وفقاً لطريقة الجوامع في سوريا، حيث إنه الجامع الوحيد الذي ترتفع مئذنته وفقاً للمآذن في سوريا، وهي طريقة هندسية تختلف اختلافاً كلياً عن تصميم المآذن في المغرب لعلها تتبدى في جانبين رئيسيين هما: المآذن السورية دائرية وطويلة، فيما المآذن المغربية قصيرة ومستطيلة.

المغاربة والسوريون المغربيون اتخذوا من الجامع علامة للتضامن مع الثورة السورية حيث كان يجتمع عدد كبير منهم أمام باب الجامع للتعبير عن تضامنهم مع السوريين.

لا غضاضة عند أهل طنجة أن يكون اسم الجامع جامع السوريين حيث يجتمع مئات منه في باحته الخارجية في شهر رمضان كل عام،  بل إن الحي صار اسمه حي السوريين وتسكن فيه عدد من العوائل السورية المهاجرة منذ أكثر من نصف قرن، تلك العوائل التي أصبحت عوائل مغربية من جذور سورية ولا تزال ترتبط مع أهلها بسوريا بصلات ومصاهرات مثلما باتت ترتبط بعوائل مغربية كما حدث حين تزوج نجل رئيس الوزراء المغربي السابق من آل الططري المغاربة السوريين.

المغاربة والسوريون المغربيون اتخذوا من الجامع علامة للتضامن مع الثورة السورية حيث كان يجتمع عدد كبير منهم أمام باب الجامع للتعبير عن تضامنهم مع السوريين، كأنهم يؤكدون مقولة أدونيس الذي أطلق تصريحات مثيرة قبل عام من طنجة، عن الدين عامة، وسبق أن حاول مقاربة الثورة السورية من عين الجامع.

يفتخر الطنجاويون -عكس سكان مدن كبيرة كانت تقدم نفسها أنها حامية المسلمين- بحضور السوريين في حياتهم عبر التجارة والنسيج والطعام والحلويات ويقولون لك: مرحباً بك في طنجة، بلد التنوع والتعدد!

حين يعلمون أنك سوري يحدثونك عن جامع السوريين وكذلك عن المرحلة الأموية في تاريخ طنجة، ومن جهة أخرى يحدثونك عن مئات مروا من هنا من أجل مرحلة اللجوء إلى أوروبا، يعبرون عن انزعاجهم من أن الحكومة لم تعد تمنح السوريين فيزا لزيارة المغرب إلا بصعوبة شديدة، ويقولون لك: هذه حسنات الجواز الأوروبي!

لا يشعر الطنجاويون بأي عقدة نقص تجاه الآخر، وإن كانوا يتذمرون من شحاذين يأتون من مختلف البلاد في مواسم السياحة، بل ويتذمرون كذلك من كثرة السياح، حيث تتحول المدينة في الصيف خاصة نتيجة مناخها الجميل، إلى مدينة لمغاربة الداخل والمغترب، غير أنها تبقى محافظة على نظافتها رغم كثافتهم.

 لا بد أن تبدأ نهارك بالشاي المغربي الأخضر "أتاي"، إذ تنتشر المقاهي أسفل معظم المباني، يمكن أن يأخذك شخص مغربي في جولة إلى عالم الأساطير حيث يحدثك عن أن البحر الأبيض المتوسط لم يكن عالم تجارة فحسب بل كان موئل عالم أساطير لتفسير العالم، لعل أحدها كيف انشق البحر لمرور سفينة نوح عليه السلام.

تقف على شرفة طنجاوية فترى مدينة إسبانية أمامك على الضفة الأخرى من البحر المتوسط، يمكن أن تصلها عبر البحر في نحو نصف ساعة، تمشي في المدينة فتجد خلف كل باب حكاية هم من زاروا طنجة، تحاول أن تفهم لهجة الطنجاويين الذين يبدؤون بالحرف الساكن عكس طريقة العرب، فتجد أن أفضل طريقة للتواصل مع المغاربة هي الفصحى، مع أن في معجم لهجتهم الكثير من الكلمات الفصحى التي لم تعد مستعملة في المشرق.

هل تعلم أن صاحب الفندق سوري شامي جاء إلى هذه البلاد قبل خمسين عاماً! تصيبك نشوة الشعور بالاعتزاز وأن اللمسة السورية في الأناقة والترتيب والنظافة تترك بصمتها في جزء ما من العالم!

تقف أمام ضريح ابن بطوطة فتستذكر رحلته، وكيف خصص معظم عمره لتلك الرحلة وتتساءل عن دوافعه،  تقرأ منشوراً عن ندوة عقدت قبل أيام عن كتابات الروائي محمد شكري، تقودك بعض تفاصيل المدينة وشواطئها المخدمة جيداً والمهيأة للمشي لتفقد جدولك اليومي من المشي فتجد أنك رفعت عدد الخطوات لتصل إلى عشرين ألف خطوة في اليوم، فتتساءل كيف حدث هذا؟ ترتاح في مطعم لتأكل السمك الذي يسمى هنا "الحوت" وكذلك قد تأكل "البيصر" وهي خلطة من فول أخضر ويابس، غير أن النادل ينصحك أن تأكل الكسكس أو الطاجين أو الرفيسة. وإن سألته عن "الكالينتي" وهو طبق مصنوع من الحمص المطحون وزيت الزيتون يوضع في الفرن ويباع على شكل سندويشة أو دونها، فإنه يقول لك: هذه حصراً يجب أن تشتريها من كبار السن ممن يقفون في زوايا المدينة القديمة، وتسأله عن جذورها فيقول لك هي أكلة إسبانية يهودية.

يفاجئك العامل في الفندق حين تهم بمغادرة طنجة، الذي منحته تقييماً عالياً نتيجة أناقته ونظافته ولطافة العاملين فيه، ضمن ثقافة التعليقات التي يحاول النظام العالمي الجديد أن يشيعها حيث يعطيك السلطة للتقييم والشعور بأهميتك وقيمتك كشخص دفع للبضاعة ما تستحقه، ليقول لك: هل تعلم أن صاحب الفندق سوري شامي جاء إلى هذه البلاد قبل خمسين عاماً! تصيبك نشوة الشعور بالاعتزاز وأن اللمسة السورية في الأناقة والترتيب والنظافة تترك بصمتها في جزء ما من العالم!

تستذكر طارق بن زياد حيث تقف أمامك مدينة جبل طارق في الضفة الأخرى وسردياتها، تحضر مسارات الثورة السورية وتحولاتها ومصطلحاتها وحروبها الكبيرة والصغيرة بين مواليها ومعارضيها، ثم تدور في رأسك كلمات من سردية خطبته المشهورة، متسائلاً عن أي إرادة تلك التي جعلت أولئك البشر في تلك المرحلة من التاريخ يقطعون بحراً إلى عالم آخر لأنهم يؤمنون بفكرة ورسالة ربما أو طمعاً؟ لا مشكلة فالإنسان أي إنسان تتنازعه حاجات أرضية مرات ودوافع سماوية:"أيها الناس، أين المفر، البحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس ثم والله إلا الصدق والصبر، فإنهما لا يغلبان، وهما جندان منصوران، ولا تضر معهما قلة، ولا تنفع مع الخور والكسل والفشل والاختلاف والعجب كثرة".