في مطلع عام 1976 بدا واضحاً اهتمام حافظ الأسد وقتها بالسيطرة على لبنان، وتقدم بمقترح يهدف للتدخل في لبنان بهدف تطويع المقاومة الفلسطينية وحلفائها من الحركة الوطنية اللبنانية، المقترح الذي لاقى قبولا لدى التشكيلات المارونية المدعومة من الأسد، وبدأ زحف القوات السورية إلى لبنان، وكانت أولى عملياته الكبرى ضرب المقاومة الفلسطينية في تل الزعتر، ذلك الحصن المنيع للمقاومة الفلسطينية، ثم أتت عملية اغتيال زعيم الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط في آذار 1977 ضربة قاصمة وموجعة للمقاومة الفلسطينية، ونقطة فاصلة في تغيير مسار الحركة الوطنية اللبنانية التي بدأ فرط عقدها منذ ذلك اليوم الأسود.
سعى حافظ الأسد منذ دخوله إلى لبنان إلى إضعاف أي مقاومة تواجه إسرائيل، وجاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران 1982، أي بعد ست سنوات من دخول الجيش السوري الجغرافيا اللبنانية، والذي كانت معاركه خلالها أشبه بعمليات تنظيف سابقة لذلك الاجتياح، وبمشاركة بعض الفصائل المحلية الموالية لإسرائيل كحزب الكتائب وجيش لبنان الجنوبي اللذين ارتكبا مجزرتي صبرا وشاتيلا خلال الاجتياح، حتى استطاعت إسرائيل تقليص خسائرها في تلك الحرب كثيرا، ووصلت إلى مبتغاها بإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، بعد رفض ياسر عرفات الانسحاب باتجاه دمشق، خشية تسليم ملف المقاومة الفلسطينية لحافظ الأسد، والذي كان بالباطن مطلباً أميركياً أوروبياً إسرائيلياً.
وصول الخميني إلى هرم السلطة في إيران كان نقطة فاصلة في تاريخ المنطقة، حيث بدأ من تلك اللحظة تحالف غربي أميركي مع إيران تحت اسم الإسلام السياسي الشيعي
بعد حرب لبنان كان لا بد من ضبط المقاومة الفلسطينية وتطويعها، وقد فشل حافظ الأسد بالسيطرة عليها نتيجة موقف عرفات الصلب من الأسد، هنا بدأت التحولات في تطييف المقاومة اللبنانية وتشييعها، بعد أن كانت مقاومة يسارية، الخطوة جاءت نتيجة الظرف الحاصل قبل سنوات من الحرب، وهو بروز الخميني في إيران القادم بدعم المخابرات الإنكليزية وهي ذات الجهة التي يشير إليها باحثون بأنها كانت وراء بروز نجم حافظ الأسد في سوريا وصعوده إلى السلطة.
وصول الخميني إلى هرم السلطة في إيران كان نقطة فاصلة في تاريخ المنطقة، حيث بدأ من تلك اللحظة تحالف غربي أميركي مع إيران تحت اسم الإسلام السياسي الشيعي، ضد العرب السنة، فكان تطييف المقاومة في لبنان جزءا من خطة مدروسة لتوسيع وجود إيران بالمنطقة، والتي أطلقت ثورتها شعارات براقة بالظاهر كمحاربة أميركا الشيطان الأكبر، ودحر إسرائيل ودعم المقاومة ضدها، ويروي الراحل ميشيل كيلو عن المفكر السوري إلياس مرقص، قوله حول وصول الخميني إلى طهران بعد نجاح الثورة (هذا الرجل سيجعل المنطقة تعوم على بحر من الدماء).
وهنا بدأ التركيز على حزب الله كفصيل مقاوم متجانس طائفياً، وتحويل المقاومة اللبنانية من خلاله إلى جناح إيراني شيعي وسط لبنان وعلى حدود إسرائيل، منضبط بحسب التوجيهات الإيرانية، والظروف التي تتطلب التصعيد والتهدئة بما يخدم المصالح الإسرائيلية دائما.
ومع التحولات الحاصلة في الملف الفلسطيني خلال التسعينيات، كان لا بد لإيران أن يكون لها دور للسيطرة على المقاومة داخل الجغرافيا الفلسطينية، والذي من الصعب تطييفه بسبب تركيبة الشعب الفلسطيني، فكانت حركتا حماس والجهاد الإسلامي هما الأنسب للدعم الإيراني لإضعاف قوة فتح في الشارع الفلسطيني، أو إيجاد كفة ميزان موازية لها على الأقل، حتى تغيب القيادة الفلسطينية الموحدة، وقد برزت تلك الظاهرة فعلا بعد وفاة عرفات.
ووجدت حماس نفسها أمام أبواب العالم المغلقة باستثناء البوابة الإيرانية، لتتوطد العلاقة مع حكم الولي الفقيه وتصل إلى مستوى واسع، خاصة أن التصريحات الإسرائيلية تجاه إيران لا تدع مجالا للشك في عدائية واضحة بين الطرفين.
إذاً إيران باسم دعم المقاومة والقضاء على إسرائيل توسعت في الحواضر العربية، وسيطرت بقوة في العراق بعد الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003، كما توسع نفوذها في بيروت نتيجة سياسة حزب الله وتعاظم قوته المسلحة التي هدد بها الحياة السياسية هناك، خاصة بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وخروج الجيش السوري عام 2005، ليغدو لبنان تحت الوصاية الإيرانية والسورية غير المباشرة.
جاء الربيع العربي عام 2010 وتوسعت رقعته عام 2011 في سوريا واليمن، كفرصة تاريخية لإيران للدخول إلى البلدين عبر نظام الأسد مباشرة في سوريا وبدعم للحوثيين في اليمن، لتغدو الحواضر العربية الأربع تحت السيطرة الفارسية (بغداد، صنعاء، دمشق، بيروت).
كل تلك التحولات في التمدد الإيراني لم تلق أي تحرك غربي أميركي لكبح جماحها، على العكس، بدت الميلشيات الشيعية أو المدعومة إيرانيا في تلك الدول تنتشر كالفطر، ولم تسجل لها بشكل واضح أي انتهاكات تدينها على الرغم من كثرة جرائمها، وبالمقابل كانت الميليشيات المحسوبة على التيار السني تسجل انتهاكاتها بنفسها بفيديوهات مصورة تدينها، وهو ما يعطي صورة فجة عن إرهاب التنظيمات السنية حسب تصنيفات دول الغرب وأميركا.
ومن هنا أصبحت الصورة المشوهة للإسلام السياسي تنصبّ على التيارات السنية حصرا، على الرغم من أنها ليست ذات منهج أو مشرب واحد، فالإخوان المسلون يختلفون في منهجهم عن القاعدة والتي تختلف عن تنظيم الدولة بفكرة الجهاد العام، كما أنها تختلف عن التنظيمات الجديدة صاحبة فكرة الجهاد المحلي كهيئة تحرير الشام، لكن رغم كل تلك الخلافات بين التنظيمات السنية المختلفة، إلا أنها ومن وجهة نظر الغرب تصب في خانة واحدة ومنشأ واحد وتصنيف واحد (الإرهاب السني المتطرف).
بينما في المقابل لا وجود لتوصيف دقيق حول الإسلام السياسي الشيعي، والذي أصبح أكثر توسعا في المنطقة، وأكثر مركزية، حيث إن ميليشياته على طول تلك الجغرافيا تقاد من طهران وبأمر الولي الفقيه، ولا تختلف أيديولوجيات ميليشياته المتعددة، بل تبدو جيشاً واحداً ينتشر من إيران إلى بيروت على البحر المتوسط.
الحالة الفلسطينية وواقع حماس
بعد اتفاق أوسلو، أصبحت حماس رقماً صعباً في المعادلة الفلسطينية، وتعاظمت قوتها بعد سيطرتها على غزة، وانفرادها في حكمها، واستمرارها بالمقاومة ضد الاحتلال على الرغم من عداء المحيط والجوار العربي لها، خاصة مصر، ونتيجة خفوت نجم فتح وعملها العسكري تصدرت حماس واجهة النضال الفلسطيني، لتغدو الرمز الفلسطيني الأبرز كما كانت منظمة التحرير في ثمانينيات القرن الماضي.
اليوم وبعد عملية طوفان الأقصى، والتي كانت أبرز العمايات في تاريخ الكفاح الفلسطيني وأوسعها، باتت حماس بعد ما يقارب العشرين يوماً على العملية باتت وحدها في المشهد المقاوم، وانكفأ عن مناصرتها محور المقاومة من حزب الله إلى إيران ونظام بشار الأسد، لتصبح أمام خيارات الحرب الواسعة والتي ربما ستكون خسائر إسرائيل فيها كبيرة، لكن نهايتها ستكون سلبية النتائج على حماس، والتي ربما ستلقى مصير منظمة التحرير عام 82 بتهجير مقاتليها من غزة إلى خارج التراب الفلسطيني.
المطالبات الإسرائيلية هي بتهجير أهالي غزة مع حماس باتجاه سيناء، وهو ما رفضه الرئيس المصري، والذي اقترح التهجير إلى صحراء النقب.
تهجير المقاتلين إلى اليمن مصلحة أميركية إسرائيلية إيرانية ثلاثية الأبعاد، تبقى معلقة على قرار حماس في الموافقة عليه
وعملية الحديث عن التهجير ما زالت بين أخذ ورد، لكن من الواضح أن دول الجوار لن تقبل بتهجير الفلسطينيين إليها، ويبدو أن عملية ضبط المقاومة التي تحدثنا عنها في أول المادة تمضي بمقاتلي حماس إلى سيناريو مختلف، إي ستمضي بهم إلى مكان تستطيع إيران فيه التحكم بهم وضبطهم باعتبار أنها الدولة شبه الوحيدة التي تقف إلى جوارهم من حيث الظاهر، ولن تستطيع نقلهم إلى تراب فارس، ومن الخيارات المحتملة هو الخيار في اليمن، الدولة التي تحكمها ميليشيا ما دون الدولة، وتصبح بذلك قوة على أبواب الخليج مدعومة إيرانياً تبتز بها المنطقة، ولن يكون السيناريو مرفوضا أميركيا، خاصة بعد توتر العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة، وربما سيكون باباً أوسع لابتزاز الخليج لدفع أموال لها مقابل الحماية على غرار ما حصل في عهد الرئيس السابق ترامب.
إذاً تهجير المقاتلين إلى اليمن مصلحة أميركية إسرائيلية إيرانية ثلاثية الأبعاد، تبقى معلقة على قرار حماس في الموافقة عليه عند الحديث عنه، أو أنها ستتخذ موقفاً مشابها لموقف ياسر عرفات بعد اجتياح بيروت من حافظ الأسد وتسليمه ملف المقاومة، الأيام القادمة حبلى بالكثير من التفاصيل، والتي ربما ترى حماس من خلالها أن حلفاء الحرب ضد إسرائيل كانوا حلفاء تمرير أجندة لا أكثر.