خلال القرن الثامن عشر، ظهر الاهتمام الغربي بالشرق العربي وخاصة مناطق باديته، بداية من حوض الفرات إلى أعماق نجد، لتصبح تلك المنطقة محجاً لباحثين غربيين، عبروا رمالها وكتبوا عنها، وفندوا حياة بدوانها وحضرها، ورسموا خرائط لتوزع الحياة فيها، فغدت بعض تلك المذكرات والكتب مراجع ما زالت حتى اليوم بوصلة للمهتمين بتلك البادية.
من الليدي آن بلنت وزوجها المستشرق المعروف ويلفريد بلنت، إلى غيرترود بيل، الشخصية الأبرز على المستوى السياسي، والتي سميت ملكة الصحراء، صاحبة الصلة الكبرى بشخصيات بارزة في الحكومة البريطانية، إلى أجاثا كريستي وزوجها الباحث التاريخي ماكس مالوان، مروراً بلورانس العرب وآخرين كثر، تركوا إرثاً مكتوباً عن تلك الصحراء وسكانها، ومن الملاحظ أن بعضهم لم تكن مهامهم فقط البحث والمعرفة وكتابة أدب الرحلات وإنما حملت طابعاً لم يبتعد عن الارتباط الاستخباري.
كل تلك الكنوز المخطوطة لأولئك "الباحثين" ونتاجهم المعرفي، لم تكن لترى النور لولا جهود كبرى بذلها عارفون بحال البادية، المرافقون لهم في رحلاتهم خلال رمالها ومن يسمّون الأدلاء،فالدليل لم يكن فقط خبيراً بمسالك الصحراء وعادات قاطنيها ونزولهم وترحالهم، بل غالباً ما يمتلك مهارات أخرى أكثر اتساعاً، تكمن في إجادته لبعض اللغات الغربية، إضافة إلى القراءة والكتابة بالعربية والعثمانية، ويحفظ طباع الغرب وعاداتهم، فنرى محمد عبد الله العروق الدليل التدمري المرافق لليدي بلنت في جولتها الأولى عبر بادية الفرات حين كتبت كتابها "عشائر بدو الفرات" عام 1878، وبحسب روايتها عنه فإنه يتمتع بكثير من تلك المواصفات، وهي التي عادت لتستعين به في رحلتها الثانية إلى نجد، تلك الرحلة التي أنتجت عنها كتابها "رحلة إلى نجد"، ووثقت خلالها الحياة في مدينة حائل التي كانت تحت حكم آل الرشيد، وهي المدينة المحرمة والعصيّة على الغرباء.
دليل آخر حمل كل تلك الصفات والإمكانات، وهو مرافق غيرترود بيل في نهاية فترة حكم الدولة العثمانية للمنطقة، الشخصية التي لعب دورها في فلم "ملكة الصحراء" الفنان السوري جهاد عبدو، وحمل اسم فتوح، والذي لم يكن مرافقاً فقط، بل كان قائداً ومخطِطاً لكل عمليات المسير، ومستبصراً حتى في القرارات الحكومية وعوائقها، حيث أذهلها كيف استطاع الخلاص من الدورية العسكرية العثمانية حين أبرز لهم ترخيصاً يحمل اسم الليدي بيل مختوماً من الباب العالي، واكتشفت بعد تلك الحادثة أن الترخيص كان مزوراً.
صفات كبيرة حملها أولئك الأدلاء، وتسهيلات واسعة تم تقديمها من قبلهم لمن قدموا إلى الشرق كباحثين حتى قدموا نتاجهم للغرب والشرق
ومما ترويه أجاثا كريستي في مذكراتها "تعال قل لي كيف تعيش"، عن دليلها وسائقها الأرمني أرستيد، أنه كان يعدّ نفسه من بدو "عنزة" وقد نشأ بينهم كواحد منهم، وحمل كل صفاتهم، وتحكي أيضاً عن تمتعه بالذكاء الحاد والمعرفة والتعاطي مع الأزمات برويّة وحكمة.
صفات كبيرة حملها أولئك الأدلاء، وتسهيلات واسعة تم تقديمها من قبلهم لمن قدموا إلى الشرق كباحثين حتى قدموا نتاجهم للغرب والشرق، في حين لم نجد أي منتج لباحث شرقي في تلك الفترة عن المنطقة، على الرغم أن تلك المذكرات تعترف بوجود من يستطيعون تقديمها، فالأدلاء لديهم الكثير مما يمكن أن يبنى عليه، وربما لو قدمت شركة الهند الشرقية لباحث عربي لاستطاع بمساعدة أولئك الأدلاء أن ينتج عملاً بحثياً أكثر أهمية، وأقل كلفة على الصعيد المالي والزمني.
متعاون محلي.. اسم يطلقه الباحثون الغربيون اليوم على مصادرهم في البحث عن المعلومة، أو المرافق لهم في جولاتهم الحالية داخل مناطق الصراع في المنطقة
تكهنات كثيرة عربية وروايات نسجت حول أولئك الباحثين وأدوارهم، حتى في رسم حدود المنطقة وتقسيماتها، لم تستند في كثير منها إلى وثائق تثبتها أو شهادات حية تؤكدها، في حين كان من المستطاع توثيق شهادة الأدلاء المرافقين ومذكراتهم عن تلك الرحلات، والتي ربما أفرزت شيئاً مختلفاً يطرح جدلاً حول صدقية تلك الكتب وتوثيقاتها.
متعاون محلي.. اسم يطلقه الباحثون الغربيون اليوم على مصادرهم في البحث عن المعلومة، أو المرافق لهم في جولاتهم الحالية داخل مناطق الصراع في المنطقة، وهو الذي يتمتع بإمكانات وصفات ربما تؤهله في معظم الأحيان لإنتاج مادة بحثية كاملة مدعومة بالوثائق والشهود، لكن الصورة لا تقول إلا كما قال المثل العربي: مزمار الحي لا يطرب، لذلك تم تحييد الباحث العربي وجعله أداة بيد الباحث الغربي، لأن المعلومة من قبله قد لاتصل كاملة أو ربما قد يغفل عن معلومة قد تفيد من وراء الباحث الغربي؛ لأن الهدف الحقيقي من كل تلك التوثيقات يبقى غير معلن، ويبقى هناك وراء الأكمة ما وراءها.