منذ بداية الحرب في أوكرانيا أواخر شباط الماضي، أصبحت الأحاديث السياسية في كل من واشنطن والعواصم الأوروبية تدور حول أفضل طريقة يمكن للغرب من خلالها إنهاء اعتداء فلاديمير بوتين، وتلخصت الإجابات حتى الآن بمساعدات اقتصادية وعسكرية تقدم لكييف، وعقوبات اقتصادية تفرض على روسيا، مع إعادة رسملة حلف شمال الأطلسي. غير أن تلك الحلول تكتيكية فحسب، لأنها تركز على الحرب الجارية التي تشنها روسيا وليس على طموحاتها الاستراتيجية الأوسع.
من أجل شن هجوم همجي على أوكرانيا والاستمرار فيه، تحتم على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يركز على سياسة حكومته الخارجية وذلك لأن الجيش قد ينشر بأكمله على الجبهة الأوكرانية. ونتيجة لذلك، نشر بوتين الآلاف من الجنود الروس والمعدات الروسية والأرصدة الموجودة في مختلف بقاع العالم، لتصبح بعيدة عن أماكن النفوذ التقليدية في مواضع مثل القوقاز بالإضافة إلى أراض لمعارك جديدة في أفريقيا. ولهذا حتى في آسيا الوسطى التي تعتبر الحديقة الجيوسياسية الخلفية لروسيا، أصبحت الأنظمة الإقليمية هناك تسعى للابتعاد عن السقوط الحر الذي باتت موسكو تعيشه.
وهذا التوجه الذي ترافق مع خسائر روسية كبيرة في أوكرانيا، أضعف قدرة بوتين إلى حد كبير على توجيه قوته الخشنة أو تعزيز قوته الناعمة، وهكذا بات على الولايات المتحدة وشركائها الاستفادة من حالات القصور تلك لدحر النفوذ الروسي في العالم أجمع.
البداية من سوريا
إن المكان المنطقي للبدء بذلك هو سوريا، التي تعتبر بداية وتمهيداً للحرب في أوكرانيا، بما أن روسيا كانت من الداعمين الأساسيين لنظام الديكتاتور بشار الأسد، ولهذا حصد الدعم العسكري الذي قدمته موسكو للنظام عوائد هائلة، تمثل بفرض وجود بحري روسي طويل الأمد واقتطاع منطقة نفوذ واسعة لروسيا من البلاد. بيد أن روسيا اليوم لم تعد تتمتع بذلك النفوذ العسكري أو الاقتصادي لتدعم الأسد، أو لتساعد نظامه على إبقاء سيطرته بحكم الأمر الواقع على مراكز بعض المدن مثل تل رفعت ومنبج.
الدور التركي
وهنا يظهر الحليف الطبيعي، أي تركيا، التي انتهزت كل فرصة لتقويض النفوذ الروسي، حيث وقفت في وجه مخططات الكرملين في كل من أذربيجان وليبيا، والعديد من المرات في أوكرانيا اليوم، والتي كان آخرها تغيير قواعد اللعبة بالنسبة لصفقة الحبوب. ولقد أثبتت أنقرة من خلال ذلك بأنها شريك مناسب للغرب، لاسيما عندما يأتي دور الاستفادة من المواقف. كما أن تركيا تحدوها رغبة واضحة لتوسيع نطاق نفوذها في سوريا، حيث صور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تلك العملية على أنها أولوية لمكافحة الإرهاب. لذا فإن إعطاء الضوء الأخضر لأنقرة حتى تقوم بذلك يعتبر طريقة غير مكلفة بالنسبة لواشنطن يمكن من خلالها التصدي للنفوذ الروسي في منطقة بلاد الشام.
أفق المناورة الأميركية في ليبيا
وفي هذه الأثناء، وتحديداً في أفريقيا، وبالتعاون مع الشركاء الأوروبيين ومع تركيا، التي تعتبر الراعي السياسي لحكومة طرابلس التي تدعمها الأمم المتحدة، بات بوسع الولايات المتحدة أن تتحرك لتسهل عمليات نقل الغاز من ليبيا إلى أوروبا، في مناورة قد تقوض جهود روسيا الساعية لاحتلال حقول النفط الاستراتيجية وحرمان بقية الدول منها في تلك الدولة، بما أن ذلك قد بدأ يضر بمصالح أوروبا.
فرصة للصين وأميركا في الدول السلافية
أما في آسيا الوسطى، فإن جميع المؤشرات تدل على أن روسيا تفقد نفوذها في تلك المنطقة من الناحيتين الاقتصادية والأخلاقية، وذلك لأن العقوبات التي فرضت على موسكو قللت من جاذبية روسيا كدولة شريكة، في حين أن الضعف العسكري الروسي، ومطامح روسيا في عموم المنطقة السلافية، دفعت الحكومات في تلك المنطقة للتشكيك بعلاقاتها مع الكرملين التي امتدت لأمد طويل، وهنا تظهر الصين التي سارعت لملء هذا الفراغ الحاصل، إلا أن الباب مايزال مفتوحاً على مصراعيه أمام الولايات المتحدة لتملأ هذا الفراغ هي أيضاً، خاصة في الوقت الذي تقوم فيه دول مثل كازاخستان وأوزبكستان بالتطلع نحو الغرب من أجل التشاور على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، ومن أجل القيادة وكذلك من أجل الإصلاح الديمقراطي.
وأخيراً، فقد كشف التوتر الذي عاد للظهور في دول البلقان عن ذلك الجانب المنسي بالنسبة للوجود الروسي في أوروبا، إذ إن المقارنة التي أجراها بوتين مؤخراً بين شرعية القرم واستقلال كوسوفو أثارت حفيظة كثيرين في سيبيريا، ومنحت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فرصة التوضيح لبيلغراد بأن فكرة الانفصال عن موسكو ماتزال قائمة. وفي الوقت ذاته، قوضت الجهود الروسية الساعية لدعم ميلوراد دوديك رئيس صرب البوسنة، في محاولته للانفصال عن الدولة، حالة الوحدة الوطنية في تلك البلاد، إلا أن مخططات دوديك تراجعت بسبب الحملة الروسية على أوكرانيا، ما أعطى الغرب فرصة للتحضير لانتقال سياسي سلس.
مع مرور أشهر الصيف، أصبحت روسيا تواجه حالة جمود عسكري في أوكرانيا في أحسن الأحوال، ولكن في الوقت الذي تتمتع فيه أرض المعركة تلك بأهمية كبيرة، ينبغي على واشنطن ألا تحرم نفسها من معاينة الصورة الأكبر، كونها تحمل بين طياتها فرصة لضرب روسيا في المواضع التي توجعها، وذلك في حال الاستعداد للقيام بذلك.
المصدر: ناينتين فورتي فايف