ضمن سلسلة تعنى بتدابير الجبر والتعويض التي تمس ضحايا سوريا، كتبت المعارضة السورية جمانة سيف لتقول:
قبل عامين، وتحديداً في مدينة كوبلينز الألمانية، شهد العالم أول حكم ناجح صدر بحق أفراد من نظام الأسد بسبب ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية، وجرائم قتل وتعذيب وعنف جنسي، فدعمت أنا وزملائي 19 ناجية وناجياً مثلوا جهة الادعاء، بالإضافة إلى الشهود في تلك المحاكمة. وفي الوقت الذي قدرنا فيه جميعاً محاكمة كوبلينز على توفيرها لسبيل نحو العدالة وتمكين الضحايا السوريين من رفع الصوت أمام المحكمة والعالم بأسره، من الجدير بالذكر هنا بأن المحكمة لم تصدر أي حكم بتعويض مالي لمساعدة الضحايا على التعافي من الجرائم التي تعرضوا لها، والتي ما يزالون بسببها يعانون من أشد أنواع الأذى النفسي والجسدي. وإن لم يحصل هؤلاء الضحايا الذين وصلوا إلى العدالة من خلال المحاكم الأوروبية على جبر أو تعويض، فهل ثمة أي أمل ينتظر الضحايا السوريين الذين لم يصلوا إلى المحاكم الأوروبية؟
الآتي أسوأ
في الوقت الذي عاش فيه ملايين الضحايا السوريين في ظل ظروف ما برحت تزداد سوءاً على مدار السنوات الثلاث عشرة الماضية، جمعت الدول ملايين اليوروهات فيما يتصل بالانتهاكات الحاصلة في سوريا، وذلك عبر الغرامات والعقوبات والمصادرات بسبب انتهاك العقوبات، ودعم التنظيمات الإرهابية، والجرائم المالية. وللضحايا السوريين حق أخلاقي في تلك الأموال، ولدى الدول القدرة على تلبية هذا الحق، إذ كما هو متوقع من البرلمان الأوروبي أن يقدم توصياته في تقرير ويرفعه إلى المفوضية الأوروبية خلال شهر آذار المقبل، أي في الذكرى الثالثة عشرة للثورة السورية، ينبغي على الدول وعلى المنظمات الدولية أن تؤسس صندوقاً للحكومات الدولية حتى تدعم التدابير التعويضية لصالح ضحايا انتهاكات القانون الدولي في سوريا، على أن يجري تمويل هذا الصندوق من عوائد الأحكام النقدية المرتبطة بالانتهاكات الحاصلة في سوريا. وإنني أتعاون مع المجتمع المدني السوري ومشروع التقاضي الاستراتيجي لدى مجلس الأطلسي على إنشاء صندوق ضحايا سوريا.
منذ أن نزل الشعب السوري إلى الشوارع في آذار 2011 ليطالب بالحرية والكرامة والعدالة ضد نظام بشار الأسد الديكتاتوري، تعرض هذا الشعب لأنواع لا تحصى من صنوف الانتهاكات والجرائم الدولية، وتشمل القتل، والتعذيب، والإخفاء القسري، والتهجير القسري، واستخدام أسلحة كيماوية محرمة، وأسلحة عشوائية. وبعد مرور ثلاثة عشر عاماً على العنف المستمر والممنهج الذي يمارسه النظام بدعم من روسيا وإيران، بالإضافة إلى دعم الجماعات المسلحة التي لا تمثل دولة، وصل عدد ضحايا الجرائم الدولية في سوريا إلى ملايين عديدة.
إن مراجعة بسيطة لتقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية والسورية لا تكشف فقط عن أوضاع كارثية في الوقت الراهن يعيشها الضحايا وخاصة من النساء والأطفال، بل أيضاً تكشف عن توقعات بمستقبل أسوأ في حال عدم تعويض الضحايا عن تلك الانتهاكات والأضرار بحسب ما ورد في شرعة حقوق الإنسان الدولية وفي نص القانون الدولي.
بالإضافة إلى الضرر المادي الذي تسبب به القصف والقذائف والتهجير القسري، يستحيل علينا أن نتغاضى عن الضرر الجسدي الذي عاشه ملايين السوريين بسبب التهجم المباشر على أجسادهم، والمتمثل بأمور مثل التعذيب والعنف الجنسي، والذي خلف لدى عدد كبير منهم إعاقات دائمة. كما يستحيل غض الطرف عن الضرر النفسي الهائل الذي اختبره ملايين السوريين بسبب هذه الجرائم والتي سترافق الضحايا إلى أن يحصلوا على دعم نفسي واجتماعي واقتصادي يساعدهم على التغلب على تلك الآثار الكارثية.
مأساة المعتقلين
تعرض عدد لا يقل عن 1.2 مليون فرد، بينهم نساء وأطفال، لتجربة الاعتقال في سجون النظام السوري منذ آذار 2011، ومن الصعب أن نجد معتقلاً لم يتعرض لصنف أو أكثر من صنوف العذاب الذي يمارس في سجون الأسد بصورة ممنهجة. وحتى في حال نجاة المعتقل من التعذيب الجسدي بالمصادفة، يكفيه أن يتعرض للعذاب النفسي وإذلال الكرامة الإنسانية، والإهمال الصحي، وعدم معرفة مصيره حتى تتكون لديه آثار نفسية حادة ودائمة. ثم إن عائلات المعتقلين تتحمل هي أيضاً مصاعب نفسية واجتماعية واقتصادية خلال فترة غياب أحبائها والبحث عنهم، بيد أن هذه الجرائم مستمرة، إذ ما يزال حتى اليوم مصير أكثر من 135 ألف شخص أخفوا قسرياً في سجون الأسد، وبينهم نساء وأطفال، مجهولاً تماماً.
الاغتصاب كسلاح حرب
لطالما استعان نظام الأسد والميليشيات التابعة له وبشكل ممنهج بالعنف الجنسي والاغتصاب كسلاح يمارسونه ضد النساء والأطفال والرجال منذ عام 2011، فقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 11541 حادثة عنف جنسي بحق نساء منذ عام 2011، وبوسعي أن أؤكد بناء على عملي في مجال استقصاء هذه الجرائم، بأن الأعداد أكبر بكثير وذلك بسبب وصمة العار والخوف من التبعات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية. كما يحدث العنف الجنسي في أثناء تنفيذ العمليات البرية، واقتحام البيوت لاعتقال المتظاهرين، وعند الحواجز، وفي أماكن الاعتقال، وهدف نظام الأسد من استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب هو تحقيق مكاسب فورية تخلف أثراً دائماً على الأفراد والمجتمعات. إذ على المستوى الفردي، يخلف العنف الجنسي ضرراً جسدياً ونفسياً عميقاً، كما يتسبب في كثير من الأحيان بتشويه العضو التناسلي بشكل دائم. وعلى المستوى المجتمعي، يتجلى هدف العنف الجنسي بالانتقام عبر إذلال المجتمعات المؤيدة للثورة وإجبارها على الهروب وترك بيوتها، وتفكيك النسيج الاجتماعي للمجتمعات وتدميره.
الولاية القضائية الشاملة كبديل
يمثل التعذيب والعنف الجنسي شكلين من أشكال كثيرة للجرائم المرتكبة في سوريا والتي تحتاج إلى محاسبة، لكن الحكومة السورية مسؤولة عن الغالبية الساحقة من الانتهاكات، ولن تسمح بقيام محاسبة في الداخل، كما أن النظام القانوني في سوريا يعتبر بحد ذاته مصدراً للانتهاكات، ثم إن روسيا والصين عرقلتا مشروع قرار مجلس الأمن الساعي لإحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، كما أنهما ستعرقلان فكرة إقامة محكمة خاصة بشأن سوريا. وهذا ما جعل الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا، تبحث عن طرق بديلة للوصول إلى العدالة، فتم لها ذلك من خلال مبدأ الولاية القضائية الشاملة، حيث يمكن للمحاكم الوطنية أن تقيم محاكمات لجرائم دولية جسيمة لا ترتبط ارتباطاً مباشراً بالدولة نظراً لفظاعة الجرم الذي يشكل خطراً على جوهر الإنسانية وأصلها عموماً.
بعد سنوات من التحقيقات الهيكلية التي أجرتها ألمانيا، أقيمت أول محاكمة عالمياً للنظر في التعذيب الذي مارسته الدولة في سوريا، وبدأت تلك المحاكمة في نيسان من عام 2020 بمدينة كوبلينز الألمانية. ومن خلال عملي لدى المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، تسنى لي تقديم الدعم لخمس ناجيات، إذ رافقت المدعيات والشاهدات في أثناء إدلائهن بشهاداتهن أمام المحكمة، وأنا أدرك حجم الضغط النفسي المضاعف الذي تعيشه النساء في تلك الظروف التي تتسم بخطورة استثنائية، لا سيما بالنسبة للنساء اللواتي أتين من مجتمعات تمارس التمييز ضد المرأة على جميع الجبهات.
بعد مرور سنة وتسعة أشهر على إجراءات التقاضي في محاكمة كوبلينز، حصل الناجون على حكم من المحكمة أرضاهم وأثلج صدورهم، إذ أدين أول مسؤول صاحب رتبة متوسطة في نظام الأسد بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
لا شك في أن هذه المحاكمة لا يمكن أن تتم من دون شجاعة الناجين الذين بحثوا عميقاً بين ذكرياتهم الأليمة، ورووا مرات عديدة تجاربهم المروعة، وواجهوا المتهم مباشرة في قاعة المحكمة، وتحملوا كل العواقب الصحية والنفسية المترتبة على ذلك.
ولكن بنهاية المحاكمة، لم ينل الضحايا فرصة التعافي بشكل كامل وجبر الضرر الذي قاسوا منه، إذ لم يحصلوا على تعويض مالي خلال المحاكمة، كما أن صندوق ضحايا الجرائم في ألمانيا لا يقدم الدعم للأجانب من ضحايا لجرائم ارتكبت خارج ألمانيا، أي أنه عملياً يستثني جميع ضحايا الجرائم المرتكبة في سوريا. ومعظم الدول الأوروبية الأخرى تلتزم بالحدود ذاتها ضمن صناديق دعم الضحايا التي أنشأتها، لذا، إن لم يتمكن هؤلاء الضحايا الذين أمضوا وقتاً طويلاً في المحكمة من التعافي، فماذا عن ملايين الضحايا الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى أوروبا؟ وماذا عن ملايين الضحايا وعائلاتهم في الشمال السوري، خاصة هؤلاء الذين أجبروا على النزوح، وتركوا ليعيشوا مع معاناتهم السابقة في بيئة تفتقر إلى أدنى ظروف التعافي وضروريات الحياة الأساسية؟ وماذا عن الضحايا الذين هربوا إلى دول الجوار والضحايا الذين يعيشون في المخيمات ويتعرضون لظروف عيش قاسية بالإضافة إلى العنصرية وخطاب الكراهية الموجه ضدهم؟
إذا اتفقنا على أن الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري تمثل خطراً على جوهر الإنسانية بكاملها، وبأنه يحق للضحايا السوريين أن يصلوا إلى العدالة والتعويض، يغدو من الواضح ضرورة القيام بمزيد لتمكين هذه الحقوق من التحقق، وأعني بذلك أن الدول التي تجمع أموالاً بفضل أحكام تتصل بالجرائم المرتكبة في سوريا بوسعها أن تؤسس صندوقاً للحكومات الدولية من أجل دعم ضحايا سوريا، حيث تودع الأموال في تلك الصناديق لصالح الضحايا السوريين، لأنه من الإجحاف أن تستفيد الدول من هذه الأموال التي تودع عادة في خزائنها وتختلط بأموال عامة أخرى، في حين يعاني الضحايا من ضرر جسيم هم وعائلاتهم ومجتمعاتهم.
ما يزال الضحايا السوريون يتطلعون بصبر وأمل لحل سياسي عادل ينهي الحكم الديكتاتوري ويمهد السبيل أمام عدالة انتقالية تتيح للمهجرين العودة إلى بيوتهم بشكل طوعي وآمن، وتضمن جبر الضرر بصورة فردية وجماعية، ولهذا يمكن لصندوق ضحايا سوريا الذي اقترحنا إنشاءه أن يصبح نواة لانطلاقة هذه المرحلة.
المصدر: Just Security